كنت في أحد رحلاتي مع وسائل النقل العام، وهي دائما ما
تكون مختلفة فكل مرة تختلف المشاكل ولكن ليس هذا موضوعنا الآن، كنت أجلس في منتصف
الأتوبيس تقريبا وفي وقت من ما عندما بدأ يخف الزحام وكل راكب ينزل في محطة بدأت
ملامح المركبة تظهر. لمحت لوحة مكتوب عليها "مقاعد مخصصة لكبار السن وذوي
الاحتياجات" كانت موضوعة فوق ثلاثة مقاعد فشعرت ببعض السعادة لو أنني على
يقين أن لن ينتبه أحد لتلك التعليمات ولكن على الأقل هناك أمل. عندما نزل ركاب هذه
المقاعد وهم بالطبع لم يكونوا من كبار السن أو ذوي الاحتياجات، ولو أن الحياة في
بلد كهذه البلد يجعل الجميع ينطبق عليهم كلا الشرطين منذ الولادة وحتى الموت أو
السفر للخارج، لاحظت شيئا غريبا هو أن هذه المقاعد مرتفعة عن سطح الأتوبيس فهي على
الأغلب تقع فوق الإطار الامامي. ظننت أن ربما جميع المقاعد مرتفعة عن السطح بنفس
المقدار ولكن بعدها لاحظت أن صف المقاعد الذي أجلس عليه بأكمله وبقية المقاعد على
الجانب الآخر على نفس مستوى السطح! حاولت أن جد تبرير منطقي مثلا أن هناك جزء
منحني أو شيء من هذا القبيل من التجهيزات الخاصة ولكني لم ألاحظ غير ان المقاعد
تحتاج مجهود إضافي للجلوس عليها وهو منطق فشلت في فهمه وظللت أنظر وأدقق في
المقاعد لعلي أكتشف شيء ما يريحني من التفكير، المقاعد لكبار السن ولكنها مرتفعة !
بعد مرور بعض الوقت على هذه الحادثة وبعد أن استرجعت أحداث
هذه الرحلة كاملة وغيرها اكتشفت ان الموضوع منطقي تماما. فركاب هذه المواصلات
العامة هم مدربون بشكل كبير على التعامل مع الظروف الخاصة. فبداية في الأغلب
الرحلة من أي مكان لأي مكان في المحروسة وإن كانت يومية فهي تتطلب استخدام أكثر من
وسيلة موصلات لذلك الشخص الذي سيركب هذا الأتوبيس قادم من وسيلة أخرى أو سيركب
وسيلة أخرى وعليه أن ينتظر في الحر والشمس صيفا وفي البرد والمطر شتاء. وليس أي
انتظار بل ينتظر كحيوان مفترس يحاول الإمساك بفريسته فهو يراقب الطريق عن الكثب
فالأتوبيسات تتشابه ،وخطوطها كحياة البشر تبعد وتتقارب وهكذا، وبمجرد أن يرى
فريسته ويتأكد تماما أن هذا هو الأتوبيس المنشود عليه أن يجري نحوه دون تردد حتى
لا يسبقه أحد أو يفر منه الأتوبيس ،ليس فرار من الخوف طبعا ولكنه نوع من عدم
اللامبالاة الذي يعم البلاد، وحتى وإن أمسك فريسته وكان صياد ناجح كأسد الغابة
فأنه لم يحقق أهدافه بعد! هنا يأتي دور دعوات الأمهات والمظلومين الذي يستجاب
دعاهم ،وهم والحمد لله كثيرون في هذا البلد الطيب، وعليه أن يتذكر كل عمل خير فعله
في حياته لعلها تكون المعجزة ويجد مقعد فارغ حتى ولو بجانب الشباك المكسور الذي
يجعله يشعر وكأنه في صحراء الربع الخالي صيفا أو في القطب الشمالي شتاء. ولنتخيل
أن دعاء أمه أستجاب وجلس على مقعد بالفعل ،ويجب علي التأكيد أن هذه معجزة، سيجد أن
بعد دقائق هناك رجل يحكم قبضتيه على الكرسي الذي أمامه وكرسيه تماما وهو يجلس تحت
عينيه مباشرة فكل فعل أو حتى فكرة تأتيه سيشاركه فيها هذا الرجل بداية من قراءة
الصحف حتى رسائل الأصدقاء ،وقد يكون مفيدا في لفت الانتباه إلى خبر هام مثلا،
ولكنه على أي حال لا يشعر بالغضب من الصديق المفاجئ فمعجزة الكرسي الفارغ لا تحدث
كل يوم وهو سيكون مكان الرجل الآخر في رحلة العودة على الأغلب ،فالرحلة تتكرر
مرتين ذهابا وإيابا، بعد كل هذا عليه أن يثبت عينيه على الطريق، وهو شيء لا يقوم
به السائق بالطبع، لأنه إذا فاتته المحطة المنشودة سيكون خطأه بالطبع لأن أكبر
قضاة هذا القطر العادل سيقولون له أن يتوجب على الراكب تنبيه السائق بمسافة تكفي
للسائق أن يقوم بسب جميع من على الطريق قبل أن يقطع الطريق بعرضه لكي ينزل الراكب
في مكانه أمانا بسرعة بطيئة إلى حدما لأن من العيب أن يتوقف السائق عند نزول أو
ركوب الناس. وهناك قصة أخرى ستكون أشد بشاعة لو أنها كانت "راكبة" بدلا
من راكب ولكن المسافة هنا لا تكفي لأن تقريبا مشهد انتظار الراكبة وحده للأتوبيس
سيحتاج إلى كتاب على الأقل واستشارة لعدد من الأطباء النفسيين لكي نتعرف على
الأمراض التي سوف تظهر خلال الرحلة من رفقاء الراكبة في الرحلة. كما أن ستجد
الراكبة قطاع كبير من الرفقاء يرون مجرد خروجها للشارع هو امضاء وتعهد بأنه يحق
لأي شخص أن يقول أو يفعل ما يحلو له تحت بند "هي عايزة كده" وهو ما سوف
يقره نفس القاضي في الجلسة التالية وسوف يؤكد أن الراكب الشريف لم يقصد شيئا أن
قال لها تلك الكلمات التي تقول عليها أنه "قلة أدب" كمان أن يده لمستها
بالخطأ وينهي القاضي الجلسة بأن القانون واضح وصرح "مدام خرجت من البيت يبقى
هي عايزة كده".
أظن بعد هذا الشرح الذي لا يكفي بالطبع لتلك الرحلة
السعيدة في بلد الأمن والأمان والرخاء أن مجرد عقبة بسيطة أمام "كبار السن
وذوي الاحتياجات" لا تمثل شيء أمام الاهوال التي يرونها في بلد جعلت من
الاحتياجات الأساسية رفاهية زائدة.
2 comments:
جميلة :)
شكرا يا نهلة :)
Post a Comment