كانت أصوات التحذير تشير
إلى اقتراب القطار في محطة مترو "العتبة". توقفت العربات وفُتحت الأبواب
لاستقبال الركاب والذي كان عددهم قليل في ذلك الوقت من الليل. إحدى العربات في
منتصف القطار كان بها عدد لا بئس به من الركاب يجلس الجميع وهم مشغولون أو يحاولون
الانشغال بهواتفهم المحمولة. دخل "عبدالحميد" وهو رجل في منتصف عقده
الرابع ويعمل كحارس في أحد المخازن. عمله يستمر لمدة اثني عشرة ساعة متواصلة أتضحت
أثارهم على عينيه وملامحه المتعبة. جلس "عبدالحميد" أو "عم
عبده" كما يلقبه الجميع على أحد مقاعد عربة المترو وكأنه يحاول أن يبحث عن
الراحة التي لم يشعر بها في حياته. كان يتمنى لو رحلته تطول فلا يعود لهموم البيت
أو تعب العمل يظل فقط يتحرك من محطة لأخرى. "عم عبده" كان يجتهدا دائما
ألا يفصح مظهره عن حقيقة عمله وصعوبة حياته فدائما ما كان يرى في عيني أولاده
نظرات تجعله يشعر بألم لم يعرفه في حياته، عندما يرى في عيني أولاده شعورهم بالعار
فقط لأنه أبوهم.
في المحطة التالية دخل
"علي" العربة وهو شاب يبدو في مطلع العشرينات وجلس في المقعد المقابل
ل"عم عبده". بمجرد أن جلس شد أنتباهه نظرات "عم عبده"
المستمرة للهاتف النقال الخاص بالرجل الذي بجانبه. يبدوا أن الرجل يسلي وقته بلعبة
ما و"عم عبده" يراقبه. أبتسم "علي" ابتسامة شرطي تمكن من
القبض على أعتي مجرمي المدينة بعد بحث دام سنوات. "علي" عاد لتوه من
"خروجة مع أحسن صحاب" كما تشير الصورة التي وضعها على جميع شبكات
التواصل الاجتماعي من أجل توثيق اللحظة المهمة. ويبدو أن هناك لحظة أخرى يجب
توثيقها وهي نظرات "عم عبده" لهاتف الرجل الذي جانبه. أخرج
"علي" هاتفه النقال بهدوء وبدأ يتظاهر بأنه يقوم بعمل ما على الهاتف
منتظر اللحظة التي سيصور فيها "عم عبده" وهو يفعل جريمته الشنعاء.
كانت نظرات "عم
عبده" للهاتف نظرات حائرة من الصعب على شاب صغير أن يتعرف على حقيقتها. كان
يتأمل ذلك الهاتف الذي تمكن من شراء جهاز مماثل تماما له بعد تعب وادخار شهور
وعندما تمكن من القبض على أحد السارقين في المخزن وحصل على مكافئة وأستطاع شراء
الهاتف. كان ذلك الهاتف بمثابة شهادة تثبت أنه إنسان وبشر مثل الجميع وبالأخص في
أعين أبنه وأبنته والذي كان يحرص على أن يصورهم به في كل لحظة ممكنة. كان ذلك
الهاتف بمثابة مكان هروبه من النظرات التي تخترقه متسائلة عن مظهره المتواضع كان
يخرج هاتفه ليشعر ببعض الأمان. حتى مرض أبنه الشديد من أسبوع فقط والذي تتطلب
إدخاله المستشفى والتي رفضت بدورها أن تدخله حتى يدفع مبلغ مساوي لكي ما يجنيه عم
عبده في شهور ولم يكن أمامه غير حل وحيد أن يبيع شهادة توثيق كونه إنسان وبسعر
الهاتف يعالج أبنه. في عربة المترو كان ينظر "عم عبده" للهاتف متسائلا
عن العدل ولو أنه يستحق كل ما يحدث له. "عم عبده" شعر بنظرات
"علي" له ، شعر بها تخترق قلبه قبل أن يراها بعينيه ولكنه تظاهر وكأنه
مستغرق في النظر في هاتف الرجل الذي بجانبه هروبا من تلك النظرات وغرقا في أفكاره.
جاءت اللحظة المناسبة
لكي يلتقط "علي" صورته للجريمة التي يقوم بها "عم عبده". تأكد
أولا من أن الهاتف على الوضع الصامت وخبأ الهاتف في مكان مناسب في حقيبته ظهره
وبدأ يلتقط عدة صور له "عم عبده" بعد ذلك شاهد صوره بساعدة غامرة وهو يفكر
كيف أنها ستكون مادة رائعة للسخرية. أختار الصورة المناسبة والتي ستعجب الجميع كما
يعتقد ونشرها على جميع شبكات التواصل الاجتماعي كالصورة الأخرى وكتب لها تعليق كان
مناسب من وجهة نظره: "الراجل شوية شوية هينط في موبايل الراجل" ,لكنه لم
يشعر أن هذه الكلمات كافية لكسب إعجاب الجميع لابد من يبدوا الموضوع أهم من ذلك
فأضاف للجملة السابقة جملة أخرى وهي: "هي دي مصر يا جماعة".
أستمر القطار في رحلته
تحت الأرض بين الظلام والنور وكل شخص غارق في أفكاره وكل منهم له وجهته التي يريد
أن يصل إليها. بعد أقل من ساعة كان "عم عبده" يحاول النوم لكي يعود من
جديد للمخزن وهو يفكر في كلمات مدير المخزن عن تقصيره في العمل وأنه من الممكن أن
يتم طرده إذا استمر على هذا الحال. حاول أن ينسى ذلك للحظات لكي يتمكن من النوم.
فجأة تذكر الهاتف النقال الذي رآه في عربة المترو وشعر بألم يعتصر قبله، هل كان
ذلك الهاتف النقال هو نفس الهاتف الذي قام ببيعه؟ كان هذه الفكرة تتملكه ويشعر
وكأن ذلك الهاتف كان من أقل حقوقه بعد كل هذا التعب... كان "علي" أيضا يحاول النوم وهو ممسك بهاتفه أمام عينيه
وهو يضيء وجهه بالكامل ولكنه هذه المرة لم يكن مبتسم فالصورة لم تنل الإعجاب الذي
كان متوقعه والتعليقات ليست ساخرتا كفاية ، مع أن الصورة فيها كل مقومات النجاح
كما شعر. أصيب بخيبة أمل وحاول النوم أيضا.. كان "عم عبده" مازال
مستيقظا عندما سمع صوت أقدام صغيرة تقترب من الباب وبعد ذلك وجد أبنه الصغير مقبلا
عليه فابتسم عبده ابتسامة عريضة وسأل أبنه:
"مالك يا محمود؟"
"شفت حلم وحش وخايف
أنام ولوحدي، ممكن أنام جنبك؟"
ثم قال وهو يبتسم"
ممكن أوي يا حبيبي، ده أنا هحكيلك حدوتة كمان." وبعد ذلك رأى ابتسامة صافية
تعلو وجه أبنه كانت كافية بأن تزيل أي فكرة عن الهاتف النقال أو أي شيء آخر..
2 comments:
هذه هي مصر يا جماعة
تقال عن شخص فعل فعل اللصوص وهو يحاول أن يصور عم عبده في حين أنه لم يعلم بخبايا الأمور ولم يكن يدرك ان ما يفعله هو أسوأ من أي تصرف آخر
عم عبده .. وجعت قلبي والله :(
شدتنى من اول سطور .. أسلوب سلس و لغة سهلة جميلة .. ممتاز يا منو :)
Post a Comment