سأقطع هذا الطريق
(قراءة أخرى لقصيدة محمود دوريش)
فجأة شعر بأن قواه قد خارت , لم يعد قادر على
تكسير الصخر والمرور كما أعتاد, لم يعد حتى قادر على المسير , ولا حتى قدماه قادرتان على أن
تحملاه. يسقط في الأرض يشعر بحبات الرمال وقد تحركت من حوله , يتنفسها , يشعر
بالطريق يدخل في أعماقه حبات الرمل تخلل رئتاه. يمسك حبات الرمال من الأرض بقوه
ويمسح بها وجه فترى عينياه الصورة بوضوح. تتلاقي حبات الرمال التي على وجهه
وعينياه ورئتيه في نقطة واحدة مركزها القلب. فيرى الأمور أكثر وضوحا , يرى الطريق
وهو يمتد إلى الملا نهاية ولكن مع ذلك الطريق له آخر فآخره في قلبه ...
"سأقطع هذا الطريق الطويل، وهذا الطريق الطويل،
إلى آخرهْ
إلى آخر القلب
أقطع هذا الطريق الطويل الطويل الطويل ..."
يعود بذاكرته
إلى قريته الصغيرة , إلى البيوت المتراصة على البحر الصغير الممتد , والنخيل الذي
يطل على الماء , يتذكر عندما كان النخيل هو الحائط الذي يفصل بينه وبين العالم ,
يتذكر كل السنين التي مرت بين ذلك اليوم وبين يومه الحاضر , يتذكر كل يوم وكل ليلة
وكل ساعة أرق وكل لحظات المعارك وكل لحظة فرح ووصول , يتذكر كل ذرة غبار تنفسها
خلال طريقه وكل ذرة غبار نفضها عن نفسه , سيعبر سور النخيل كل يوم لو لزم الأمر ,
سيعبره كأول مرة ويتخطاه ويمر , يتذكر الجراح التي كانت تأتيه بعد كل سقطة , يتذكر
رحيله الأول والثاني والثالث واللانهائي ... يتذكرهم جميعا وكأنهم كانوا الأمس ...
سيأتي كل رحيل جديد ولكنه سيكمل لأن نهاية الطريق لم تأتي بعد ...
"فما عدت
أخسر غير الغبار وما مات مني ، وصفُّ النخيل
يدل على ما يغيبُ
. سأعبر صفّ التخيل . أيحتاج جرحٌ إلى شاعرهْ
ليرسم رمانةً للغياب؟
سأبني لكم فوق سقف الصهيل
ثلاثين نافذة للكناية
، فلتخرجوا من رحيلٍ لكي تدخلوا في رحيل".
أحيانا تثقل
حبات الرمال داخل صدره , فيضيق النفس ويترنح ويسقط , ولكنه يتذكر بدايته , يتذكر كم
قطع من الطريق ,لم يعد لديه ما يخسره من الأساس , ليس أمامه سوى شيء واحد , أن
يقطع الطريق , إلى آخره وإلى آخره , ستكون الريح معه تنقله , هو لن يرضى بأقل من
ان يصل إلى النهاية التي يعرفها قلبه , يقف على قدميه من جديد ويثبت عينياه على
هدف يبدوا بعيد بعيد وقد حدده بدقة في أول يوم له في رحلته , بدأ يشعر بيداه وقد
عادت إليهم قوتهم من جديد , وعادت قدماه تحملناه لكي يركض ويركض وتتحول خطواته إلى
سهام نافذة تخترق الرمال نحو نهاية الطريق , فلا تجد الريح مفر سوى أن تحمل سهامه
وخطواته نحو سهم البداية , نحو آخر الطريق ..
"تضيق بنا الأرض أو لا تضيقُ. سنقطع هذا
الطريق الطويل
إلى آخر القوس. فلتتوتر خطانا سهاماً. أكنا هنا
منذ وقتٍ قليلْ
وعما قليل سنبلغ سهم البداية؟ دارت بنا الريح
دارتْ ، فماذا تقول؟
أقول: سأقطع هذا
الطريق الطويل إلى آخري.. وإلى آخره."
4 comments:
رائعة يا عبد الرحمن ، كلماتك كأنها نفذت لقلبه و من ثم لقلوبنا :) ، بداية جيدة في عالم النقد
شكرا يا نهلة , منا لو مكتبتش شعر , كتبه قصص مش هسيب الشعر في حاله انا :D
جزاك الله خيرا
شكرا عبودي
Post a Comment