أغمض عينيه لثواني قليلة وحاول أن يوقف الأصوات المرعبة
ما بين صراخات الألم وصراخات الخوف والصوت الأكثر رعبا ، صوت الانفجارات البعيدة
وهي تقترب. منذ سنوات طويلة درس الطب من أجل ان يساعد الناس وليس من أجل تجميع
اشلائهم. فجأة قطع الصمت الذي صنعه لدقائق صوت طائرة اسعاف تخترق الجو.
انفجرت الأفكار في رأسه كمنظر انفجار الدم عندما تصيب
احدهم رصاصة طائشة ، وازدادت أفكاره حدة والطائرة تقترب منه وهو يلوح لها كمن فقد
عقله ..
"هل حقا شعر بوجودنا أحد؟
كيف حددوا موقعنا؟ ماذا عن الآخرين ؟ كيف سننقذهم وسط كل
هذا الدمار؟
لماذا دخلنا هذه الحرب؟ بل من نحارب من الأساس؟"
لم يقطع كل تلك الأفكار غير يد امتدت له من الطائرة،
امسك باليد التي امتدت له وقفز إلى الطائرة والتي حلقت لأعلى على الفور ، كان يريد
أن ينظر لأسفل ولكنه شعر بالخوف مما سيراه ، حاول أن يشير إليهم بأن هناك أشخاص
كثيرون مازالوا في الأسفل ولكن الكلمات هربت منه وأغمض عينيه ونام لساعات وربما
لأيام.
لا يدري كم من الوقت مضى ولكنه عاد ليجد كل شيء كما تركه
، الشارع يبدو طويلا كما اعتاده ، سار وهو يرمي السلام يمينا ويسارا وجد الشجرة
الوحيدة الموجودة في الشارع أمام النجار كما هي فابتسم لسخرية الموقف كالمتعاد
ولمح أمه من بعيد وهو تنشر ملابس أخوته وابيه لكي تجففها الشمس. تساءل لو لمحته من
بعيد ؟ بالأحرى قلبها عرف بأنه في نهاية الشارع حتى وإن لم تره. انعطف يمينا وصل
إلى تقاطع آخر ثم انعطف يسار وسار مسافة قصيرة ليجد المقهى والكراسي بنفس الترتيب
والطاولة الخاصة به في مكانها في تستند على العمود المطل على الشارع الواسع ،
ووجده يشغل أحد كراسي الطاولة ولم يطلب الشاي المعتاد بعد. جلس بجانبه وطلب قهوته
بسكرها المضبوط وتركه صديقه يطلب الشاي وعود النعناع ، لم يسأله كيف هرب هو الآخر؟
ولا عن اصاباته في المعركة. جلسا سويا لساعات طولية وكأن هناك حوار صامت يدور ،
كان يشعر بالدفء لأن صديقه بجانبه وكان على يقين بأن صديقه يشاركه الشعور. ظلا يراقبا
حركة الناس والسيارات من امامهم وكأنهم يعيدون تخزين قصص البشر بداخل عقولهم قصص
أخرى غير قصص الموت والخوف المستمر. انتهى من قهوته ولكنه نظر إلى صديقه فوجده لم
يلمس كوب الشاي فقط أكتفى بوضع عود النعناع والسكر وقام بتلقيبهم وترك الكوب كما
هو. نظر إليه ولأول مرة منذ جلستهم على المقهى قرر أن يسأله:
- "لماذا ذهبنا؟ لماذا كانت تلك الحرب؟"
لم يجد إجابة .. ولم يتوقع أجدها هنا ابدا.
أمسك يد صديقه وكانه يريد أن يأخذ شيء منها ، لعل الشيء
كان الماضي الذي تركوه وذكرياتهم واحلامهم في فتح المستشفى الخاص بهم ذلك الحلم
الذي تبدد ببداية الحرب واطلاق اول رصاصة وسقوط أول شهيد أو قتيل لا أحد يعلم ..
صار الأطباء متعهدو دفن وجامعو أشلاء ، طوال سنين الحرب لم يترك أحدهم جانب الآخر
، أصبح كل منهم الأمل في الحياة التي اختفت ..
تركه وسار في نفس الاتجاه تركا بيت طفولته خلفه ، سار
طويلا حتى وصل إلى البحيرة واصبح بإمكانه رؤية الشمس وهي تهبط خلف البحيرة والقمر
يأخذ مكانه في وسط السماء ، لم يتخيل القمر كملك على عرشه لأن تلك الصورة كانت
ستأتي بكثير من الدماء التي هرب منها في عقله. وجدها حيثما توقع عند أكبر صخرة
تستقر على جوانب البحيرة ، جالسة وكأنها إحدى جنيات البحر خرجت لتوها من الماء كما
في الأساطير والقصص. لحسن حظة تركت مكانا له بجانبها لكي يجلس ، لم تنظر ناحيته
وهو يقترب وكأنها تراقبه بطريقة أخرى ، وبمجرد أن جلس احكمت قبضتها على يده وشبكت
اصابعها بأصابعه وكأنها تحاول ان تعرف كل ما حدث اثناء غيابه عن طريق لمس اطراف
أصابعه ليدها. بدأن هي الكلام ..
- "دقائق قليلة وستختفي الشمس خلف البحيرة ويظهر
القمر .. القمر اليوم كامل .. بالتأكيد انت تعلم ذلك"
كان هو يراقب عينيها وحركتهم بين الماء والسمار وهو يرد
عليها:
- "الآن فقط اكتمل القمر .. "
- "لماذا رحلت؟"
- "مازالت أحاول أن اعرف، لماذا رحلت ؟ لماذا بدأت
تلك الحرب الكئيبة؟ لماذا سرقوا حياتي وحياة كل أولئك البشر؟ لماذا يرحل شخص عاقل
تركا تلك العنينين وحدهم ... لماذا لماذا لماذا .."
- " هل عدت حقا؟"
- "لا أدري
.. عندما يتمكن الخوف والألم من قلبك يصبح الأمل فعل لا ثقل له، يصبح الأمل
كزجاجة مياه فارغة في يوم شديد الحرارة وانت في وسط الصحراء ، لا يهم ما إذا كنت
أريد أن العودة أو لا ، لأن بداخلي أعلم بأني فقدت كل شيء وكل شيء قد فقدني..
"
- "لماذا عدت إذا؟ "
- "عدت لكي أقول وداعا، لكي أرى الأسباب التي ستحق
قيام حرب حقا."
رأى دمعاتها الصغيرة تأخذ مكاناها في وجهها وكأنه مطر
ينزل بطلف عليه وهو في وسط الصحراء فيجد نفسه يرفع الزجاجة الفارغة ويجد فرحته
ليست في أنه وجد الماء ولكن لأن إيمانه لم يضع سدى. كانت دمعاتها هي وداعه ، ضغط
على يدها هو الآخر ولكن بلطف لأن يدها لطالما بدت صغيرة في يده لم يقو على
احتضناها فمن يمكنه أن يفعل ذلك في وداع؟
عاد من حيث أتى ووجد صديقه مازال جالس على المقهى والشاي
كما هو ، والدفء يحيط به بالرغم من أن الليلة أصبحت شديدة البرودة.
وصل للمنزل فوجد الجميع فانتظاره وجالسون أمام التلفزيون
يشاهدون إحدى المسرحيات القديمة والتي شاهدوها مرارا ولكن لسببا ما مازالت تثير
ضحكاتهم. كان الطعام على الطاولة مازال ساخنا وكأنه تم تسخينه للتو، لم تتركه عيني
أمه منذ أن دخل من الباب ولم تترك حضنه أيضا وكان ابوه يسرق النظرات الدامعة إليه
ويدري تماما شعور أبيه حتى وإن لم يقل كلمة ، وكان اخوته يحيطون به ويكتفون
بشعورهم بأنه في وسطهم. كان يمتنى ولو تمتد الليلة للأبد ، كان يتمنى ولو أنه لا
يعود أبدا ابدا ، ولكنه لم يأتي لكي يبقى ، بل أتى لكي يودع الجميع ..
عاد صوت المذياع المخيف ، "غارة قادمة من الشمال
الغربي ، فليختبئ الجميع ، غارة قادمة" ، فتح عينيه ليجد الأصوات قد عادت بين
الصرخات وأصوات النيران وهي تقترب .. وصديقه ممدد أمامه والدماء تغطيه .. مسح
دموعه التي خانته وأخذ نفسا طويلا وتحرك نحو صديقه ، وحمله على كتفه ، شعر بصديقه
يتحرك ويفتح عينيه ، كان يدري .. كان يدري بأن صديقه يريد أن يعرف كتف من الذي
يحمله ، فما أسوأ من أن يموت في أرض غريبة وعلى كتف شخص غريب .. فقال له :
- "لا تقلق يا صديقي .. هذا انا وسأكون دوما انا
وانت.."
كانت خطواته بطيئة ولكنها تعرف أين تتجه، سمع صوت صراخ
قائده له بأن يعود لأن ما يقوم به هو جنون تام ، فهم قائده بأنه يتجه نحو النقطة
الطبية الوحيدة الباقية وسط هذا الدمار , ولكن هذه النقطة كانت بتجاه النيران التي
تتقرب. كان يدري بأن قائده لن يفهم أبدا من أنه قرر أن يكف أن الهرب والاختباء ، وأنه
ودع من يحتاج تودعيهم .. ودع صديقه الذي يحمله على كتفه ، ودع حبيبته التي تمنى أن
يعود لها ويرمي لها كل تلك الليالي ، كل ذلك الخوف والألم فمن غيرها يحمل عنه كل
ذلك ، تمنى أن يعود لها ويجد الحياة التي سرقت منه ، ويرى أطفالهم يكبرون أمامهم
ويجرون نحوه ويستصدمون بساقه التي تؤلمه من الحرب فيضحك متألما ويشير إلى صديقه
ويخبرهم بأن عمه كان معه في الحرب أيضا ولكنه لم يصب بأذى لأن صديقه هو افضل جراح
في العالم.. ولكن الأطفال سيكبرون دون أن يعرفوا عمهم بل لن يشبهوه في شيء أصلا ،
لا شعره الأسود ولا عينيه الواسعتين ، ولكنه كان يدري أن وادعه سيصلها رغم كل شيء
، كان يدري بأن لو نسيه الجميع ومات كل من ذهب للحرب لم يمنع ذلك أمه من تتنظره في
شباك البيت كل يوم تقف صباحا ومساءا منتظرة ذلك الخيال الذي اعتادت رؤيته وهو يعبر
المنعطف الأخير قبل أن يظهر امامها ، ستظل تنتظر إلى أن تنتهي الحياة ، وأن أبيه
سيخرج على الناس صباحا ويخبرهم أن فخورا بأبنه البطل وأنه ليس هناك ما يحزن عليه
فأبنه كما قال بطل ، وعندما يأتي الليل سيغلق باب غرفته جيدا ويجلس على كرسيه
ويبكي فكيف له أن يتحمل فقدان سنده في مثل هذا السن دون سبب مقنع ، كيف سيسير وحيدا
في تلك الليالي الباردة وبمن سيفتخر وهو يسير وحيدا .. كان يدري بأن اخوته
سينتظرونه في نفس المكان الذي اعتادوا اللعب فيه أمام البيت مثبتين أعينهم على
نهاية الشارع منتظرون ظهروه ، سيظلون كذلك حتى ولو شابت رؤوسهم وبدا اللعب شيء
ساذجا سينتظرون ظهروه ويحمل حقيبته السوداء لكي يفتشوا عما بداخلها من أشياء
تسرهم.
قال بصوت ثابت لنفسه : "وداعا إذا .. "
وأكمل مسيرته وهو لا يدري إن كان سيصل أم لا ..
2 comments:
شكراااااااااا على مدونتكجميلة
العفو ، وشكرا على تعلقيك :)
Post a Comment