أصعب أنواع الحنين هو أن تحن لشيء لم تراه
ولم يحدث من الأساس. مثلما يحن المسافر لوطن لم يراه طوال حياته. هو قضى حياته بين
الطرق, بين المدن الكثيرة , عاش غريبا هنا وهناك. عاش باحثا عن وطن ,عن أبناء وطنه
, عن مكان يختضنه بعد سفره الطويل طوال تلك السنين. يبحث عن معنى لسنوات العمر
الضائعة في السفر. هو لا يبحث عن المجهول بل يبحث عن شعور يعرفه تمام المعرفة,
يعرفه كما يعرف يديه وكما يعرف حقيقة وجود السماء من وقفه ولكنه فقط لم يعش في ذلك
الوطن.
تمر السنين وتتبدل الأحوال, قد حلمت حلم صغير
هنا وآخر كبير هناك. حلمت بعالم يسوده العدل ,تعلمت أن من جد وجد ومن زرع حصد
,تعلمت أن الحضارية بشرية هي معنى كبير للحب والتسامح والعدل والإنسانية وتقبل
البشر جميعا لأننا في النهاية بشر, تعلمت أنه ليس هناك أبشع من أن ترى الدماء تسيل
على الأرض والأرواح تتطير في السماء, تعلمت أن السعادة تبدأ في قلوب الأخرين قبل
أن تلمس قلبك, تعلمت أن الحب يقضي على الحواجز ويتخطى جميع الخلافات , يتخطى
الحدود والمفاهيم المختلفة , بل يتخطى حتى المنطق. تمر السنين وأنت تتخيل ذلك
العالم ,تتخيل أن هذه هي حقيقة البشر وحقيقة علاقة الحب بين البشر, ولكن المفاجئة
هي أن كل ذلك العالم يسقط في منطقة الحنين, هل رأيت يوما العالم بهذه الصورة؟ هل
رأيت العالم يسوده العدل أو الحب؟ هل رأيت العالم بدون قتل ودماء؟ لا ! من الممكن
أن تجد وتجد وتزرع وتزرع ولكن غيرك يجد ويحصد , حب من تشاء كما تشاء ولكن هذا لن
يشفع لك. في النهاية تجد ذلك العالم بهذه الصورة يسقط في منطقة الحنين , الحنين
لعالم لم ولن نراه , حنين إلى بشر لم ولن نراهم لأننا ببساطة أنفسنا لسنا تلك
النوعية من البشر.
يفقد المسافر الأمل فلو أنه نفسه من نوعية
البشر الذي يبحث عنهم , ما الفائدة من كل هذا السفر ؟ يتخبط كثيرا عندما يجد كل
وطن لا يشبه وطنه وكل أرض لا يشبه أرضه. يجد كل شيء عرفه مشوه ومختلف. حتى تأتي
تلك الليلة المظلمة او بالأحرى المقمرة التي يكتشف فيها أنه نعم , من الممكن أنه
يحن إلى المجهول ولن يجده أبدا ولكن هناك عالم آخر لم يعرف أنه أي شيء, عالم صغير
في حجمه ولكنه كبير جدا ليشمل الحياة كلها. حلم أن البشر سيكونون بشر ؟ لكنه وجد
الحيوانات تتعامل أكثر "بشرية" من البشر , في هذه الليلة أكتشف القمر ,
اكتشف ان الحياة لها وجوه أخرى , أينما كانت الأرض التي يجتمع بها مع القمر هي
أرضه ووطنه , ربما هو يحن إلى شيء لم يره من قبل لأن ذلك الشيء يعيش بداخله , يعيش
في عينيه التي يرى بها , يعيش في القمر في السماء , يعيش في تراب الأرض , في ذرات
الهواء في السماء, ربما عليه أن يتوقف عن السفر الأن ويعلن قوانينه الخاصة وعالمه
الخاصة ومن يرفض هو الذي يرحل , هو لديه قمره الخاص الصغير بجانبه طوال الوقت,
مازال يحن إلى شيء لم يراه ولكنه يكتشف عالمه بدون الأرض الأن.
No comments:
Post a Comment