Wednesday, July 17, 2019

لقاء



لم يقطع ذلك الصمت الرهيب سوى صوت الماء وهو يغلي. كانت تجلس أمامه وكأنها تجلس أمام شخص غريب. أستأذنها وقام ليصب الشاي. دارت هي بعينيها في المنزل فهناك شيء ما منعها من أن تقوم وتدور فيه، وشيء أقوى منعها من أن تدخل غرفتها القديمة. لعلها شعرت وكأنها ستجد تلك الفتاة الصغيرة جالسة على سريرها تأن وتتوجع وتبكي دون أن يصدر عنها صوت مسموع وعلامات الضرب بادية عليها. كانت الجدران كئيبة كما تركتها والشبابيك يعلوها التراب. كل شيء كما هو، تماما كآخر زيارة لها منذ خمس سنوات عند مرض أمها وقضت في ذلك المنزل شهر كامل حتى رحلت أمها ورحل معها كل أسباب بقائها في ذلك المنزل. ومع رحيل أمها بدأت المشاكل مع زوجها أيضا فكيف لها أن تقضي شهر كامل بعيد عن منزلها وتترك زوجها وحيدا، خمس سنوات شعرت بنفس الألم القديم مع اختلاف صوَره. انتهى كل شيء مع زوجها منذ أيام قليلة عندما أكتشف أنها لا تنجب ولم يجد أي سبب إذا في بقائهم معا وأخبرها أنه ليس لها حق في الشقة ولن يعطيها سوى سيارة قديمة ومبلغ صغير من المال مقابل "العِشْرة" التي بينهم وأن عليها أن تبحث لها عن حياة أخرى بعيدا عنه.
عاد أبيها وهو يحمل أكواب الشاي. تأملت وجهه، كانت السنوات الخمس واضحة عليه وعلى تلك التجاعيد الجديدة. ولكن شيء ما تغير لم تدرك ما هو بعد. بدأت هي الكلام قائلة:
- شكرا يا بابا، مكنش له لزوم التعب.
- تعب ايه بس يا لبنى، كفاية الانتي فيه.
- معلش ، انا مكنش عندي أي مكان تاني أروحه. انا هقعد هنا يومين لحد ما اظبط مكان مع واحدة صاحبتي وكلمت حد هيشوفلي شغل تاني مع شغلي وربنا يسهل.
- متقوليش كده يا بنتي ، ده بيتك وانا باخد ايجار الشقق في العمارة بيكفيني وزيادة اوي، فخليكي هنا.
سمعت هي جملة أبيها وكأنها لم تعني لها أي شيء. كانت تشعر وكأنها طائر محاصر قد انهكته الهروب الدائم ممن يريد افتراسه. سمعت صوت دقات ضعيفة على الباب ووجدت أبيها يقوم سريعا وهو يقول: "ده أكيد محمد". ووجدت ملامح أبيها تتغير وارتسمت على وجهه ابتسامة لم ترها من قبل. فتح الباب فدخل صبي صغير وحضن أبيها حضن لم تنله هي كثيرا عندما كانت في سنه، وأخرج أبوها مبلغ من المال من محفظته وأعطاه له وهو يقول: "متقولش لأبوك بقى". ثم عاد وجلس أمام أبنته أخبرها أن هذا الصبي هو محمد حفيد الحاج مصطفى جارهم في الدور علوي وأن أبنه هو من يسكن البيت الآن. شعرت هي بحيرة كبيرة وهي تتذكر كيف أن أبيها لم يكن يتحمل لعبهم وهم صغار هي وأخوها. ولم يفرق بينهم الاثنين، لا الولد ولا البنت فكلاهما نال حظه من المعاملة السيئة. فحتى في مرض أمها لم يتحمل صراخ حفيدته، أبنة أخوها محمود، والذي أقسم بعد وفاة والدته ألا يدخل هذا البيت من جديد. شيء ما بدا غريبا في أبيها غير علامات السن التي تبدو طبيعية مقارنة بالأشياء الأخرى. سألها عن حالها، وعن حال محمود أخوها وأنه لم يعرف شيء عنهم برغم محاولاته للوصول إليهم. وبالطبع خص بالذكر محمود وأنه يعرف أنه قد سافر وحصل على عنوانه ورقم تليفونه وحاول الاتصال به دون جدوى، بل وأرسل إليه بخطاب. وكان يحاول أن يمازحها بشأن إرساله لخطاب وكأنه يعيش في عصر قديم ولكنه بدى وكأنه يخفي ألم أكبر، هل يكون ذلك ألم إنكار ابنه الكبير وجوده؟ ظهر ذلك السؤال الغريب في رأسها وهي تنظر إلى الأرض وتتذكر عندما أخبرها محمود بشأن الخطاب وأنهما ضحكا بخصوص ذلك ولم يفكرا حتى في الرد. بعد ذلك حدث شيء أكثر غرابة، قام أبيها من مكانه وتوجه نحو خزانة قريبة وأخرج صندوق لم يكن عليه أي تراب وبدا وكأنه يخرجه كثير من ذلك المكان. فتح الصندوق وأخرج صور لهم كثيرة وأشياء احتفظ بها من طفولتهم وأخذ يحكي قصة كل صورة وكل ورقة في ذلك الصندوق ويتوقف من الوقت للآخر ليداري دموعه التي لم ترها أبنته في حياتها أبدا. لم تستطع هي أن تفعل الأشياء التي يفعلها الأولاد لآبائهم في تلك المواقف، لم تستطيع أن تحتضنه وأن تقبل رأسه وتخبره أنه كان أفضل اب في الدنيا وأفضل صديق وأفضل أخ ، لم تستطع ذلك أبدا. ولكنها فعلت شيء آخر جديد عليها، استمعت لكل كلمة يقولها ولأول مرة كانت تستمع له بقلبها وليس بأذنها فقط هروبا من العقاب. فجأة لمعت عيناه وكأنه وجد شيء ثمين، أخرج سلسلة ذهبية من صندوق صغير، وقال وهو يبتسم:
- دي أخر هدية جبتها لأمك الله يرحمها، أول ما عرفت بمرضها نزلت يوميها بليل جبتها ليها، كان نفسها فيها من زمان وانا كنت بفضل اتحجج بأي حاجة، بس ساعتها حسيت انه خلاص مفيش حجج. انا فاكر كانت مبسوطة بيها ازاي الله يرحمها وقالتلي كنت خلي الفلوس دي للعلاج ولا للعيال .. وبعد ما قالت العيال سكتت كده وانا عارف هي سكتت ليه ..
هذه المرة لم يستطيع أن يداري دموعه انطلقت وكأنه هو الطفل الذي يختبئ من الغرفة، ولكن الألم هذه المرة يأتي من أشياء كثيرة ويأتي من سنين طويلة. وجدت نفسها لأول مرة ترتمي في حضنه وهي تقول:
- هو ايه الحصل يا بابا؟
- مفيش يا بنتي، كنت فاكر انا كده هطلعكو للدنيا ناشفين، وبعد ما أمك الله يرحمها تعبت ، لقيت نفسي لوحدي. مكنتش عايز أعيش، وبعدين الواد محمد الشفتيه ده لقيت أهله بيسبوه معايا من وهو في اللفة، وكبر على أيدي وحبيته وخفت عليه بس عمري ما زعلته وبعدين أفتكرت انا عملت معاكم ايه ، بس واضح انه كان متأخر أوي.
لم يشعرا بالوقت يمر، لأول مرة لا يبدوا الوقت أبطا من المعتاد وهما يجلسان وحيدان. كانت تدري بأن بعض الجراح القديمة لن تلتئم قريبا ولكن الوقت قد لا يمهلها أن تلتئم ففضلت أن تبقى في هذا الحضن الغريب الذي يبدو لأول مرة مألوفا لها. 


Sunday, July 7, 2019

جار جديد

بالرغم من أن اليوم في منتصف الشتاء إلا أن ذلك لم يمنع الشمس أن ترسل بعض الدفء إلى شرفته التي كان يستند إلى إحدى حوائطها. يضع كوب القهوة في طاولة صغيرة أمامه وبجانبها الراديو الصغير الخاص به وتنبعث منه صوت موسيقى هادئة تكاد تكون غير مسموعة. كان يقرأ إحدى الروايات التي يود أن يقرأها في هذا الشهر. وضع الكتاب بهدوء بجانب كوب القهوة وهو يتساءل كيف للكاتبة أن تجعل النهاية سعيدة إلى هذا الحد وشعر وكأنها أفسدت الكتاب بتلك النهاية. قطع روتين يوم إجازته صوت سيارة نقل كبيرة تقترب من باب البيت ووقفت بجانب العمارة المقابلة لشرفته ونزل منها ثلاثة رجال ووقفوا ينتظرون شخص ما. جاءت هي خلفهم بسيارتها الصغيرة ووقفت أمام السيارة النقل ونزلت وهي وتبحث عما يبدو عن مفاتيح المنزل وهي تشير لهم أن هذا هو المكان وبدأ الجميع بالتحرك لنقل الأثاث من داخل السيارة إلى الشقة. خرج البواب مسرعا من مدخل العمارة وبدا أنه يرحب بالسيدة ترحيب حار. لأول مرة منذ أن بدأ عمله وسكن هذه الشقة – منذ عامين تحديدا – ينفتح باب الشرفة المقابلة لشقته وظهرت هي من خلف الباب. انعقد لسانه وشعر وكأن الكلام قد تبخر من عقله، ومن الواضح أنها شعرت بالحرج فبادرت هي بالحديث وقالت تبتسم:
- صباح الخير، انا جارتكم الجديدة ان شاء الله  
فرد هو سريعا وهو يحاول أن يصلح الأمر:
- صباح النور، حمدلله على السلامة. محتاجين مساعدة أو حاجة؟
ابتسمت من جديد وقالت:
- لا شكراً
وأسرعت للداخل وهي تتحدث لحد الرجال وتشير له بأن يضع قطعة من الأثاث في مكان ما في الغرفة.
دار بنظره في شرفته سريعا فوجد في الركن نباتات يبدو بأنها ماتت منذ وقت طويل والتراب يغطي كل شيء، وتساءل منذ متى والشرفة بهذا المنظر القبيح. أنتظر ان تغلق هي باب الشرفة وقام بتنظيف شرفته سريعا وقام بتغيير كرسيه القديم بآخر جديد كان اشتراه لمكتبه بالشقة وفي صباح اليوم التالي أشترى نبتة جديدة وبعض الزهور ووضعهم في الشرفة، صادف ترتيبه للزهور خروجها من جديد. تظاهر هذه المرة أنه لم يسمع صوت باب الشرفة ولم يرها تخرج، فضل ذلك على أن يعود إلى ذلك الحرج من الجديد. فجأة سمع صوت شيء يسقط من شرفتها وتبعه صوت شيء ينكسر. نظر بسرعة فوجد أنها هي الأخرى كانت تحاول أن تثبت وعاء به زهور على سور شرفتها ولكنه سقط منها. لاحظ ضيقها من الأمر ودخلت مسرعة إلى شقتها. انتهز هذه الفرصة وأخذ زرعته الجديدة وذهب إلى شقتها، وقف أمام الباب وهو يرتب ما سيقوله ، فجأة يفتح الباب وتخرج هي مسرعة وكانت على وشك أن تصطدم به ليقول هو بسرعة:
-احم ، انا جارك هنا
تفاجأت من وجوده، قبل أن تتحول تعابير وجهها وتبتسم عندما تلاحظ النبتة في يده وتفهم لماذا جاء.
- اه، اهلا وسهلا، محتاج حاجة؟
- لا انا شفت الزرعة وقعت وانا كان عندي الورد ده فقلت يبقى هدية الشقة الجديدة
ابتسمت ابتسامة عريضة واخذتها بسرعة قبل أن تشعر بالحرج وتقول:
-معلش اخدتها بسرعة، الورد شكله جميل، بس خليه عندك في البلكونة أحسن
-لا منا هقدر اشوفه من عندي في البلكونة وعلى الأقل هتفتكري تسقيه كل يوم
ظل واقف على باب البيت ساعتين كاملتين يتبادلان الحديث عن كل شيء بداية من السبب مجيئها إلى تلك المدينة لتعمل كمعلمة بالمدرسة مرورا بعمله ككاتب في الجريدة الصغيرة التي بالمدينة ووصولا إلى كل القضايا الفلسفية الهامة وعندما لاحظ أن الشمس بدأت تغيب والليل يقترب أستأذن قائلا
- أنا هرجع الشقة، مش عايز أعطلك
وتبادلا ابتسامة من القلب فكلاهما أدرك أنهم قد تعاطلا بالفعل. مرت الأيام سريعا وهما يتبادلان الحديث من وقت للآخر وكل هما يجلس في شرفته ، كانت الشرفة هي مكان لقائهما.
حتى حدث مشكلة في عمله وأضطر إلى أن يحل محل صديق له لتغطية حدث في مدينة بعيدة وعليه السفر أسبوعا كاملا، عاد إلى البيت وأنتظر في الشرفة ولكن يبدو أنها تأخرت في المدرسة. كان عليه أن يرحل في ذلك اليوم وشعر بالضيق من أنه لم يودعها ولكن لم يجد مفر من ذلك. مر الأسبوع بطيئا عليه وأول شيء فعله عندما عاد إلى البيت هو الخروج إلى الشرفة ولكنه لم يجدها أيضا. مر يومان ولم تظهر، وأخيرا عندما وجد الباب ينفتح كان البواب ودخل وسقا الزرع ودخل من جديد. أستغرب الموضوع كثيرا، هل رحلت؟ وشعر بغبائه أنه لم يسألها عن رقم تليفونها أو عنوانها أو أي وسيلة أتصال بها. نزل من بيته وهو يسير بخطوات بطيئة ، وعندما وصل إلى شقتها طرق الباب ولكن لم يجيب أحد. سئل البواب عن سر اختفاء السيدة فرد عليه:
- والله مش عارف، هي قالتلي أهم حاجة أسقي الزرع كل يوم وأنضف البلكونة وأنها هترجع قريب، غير كده معرفش.
- وفلوسك طيب بتاخدها ازاي؟
- هي دفعتلي الشهر مقدم، وأبوها الله يرحمه خيره عليا كتير فكأن فلوس كل شهر وصلت.
كان يود أن يسأله عنها أكثر ولكنه شعر بأن الأمر سيبدو غريبا فشكره وأنصرف.
كان يوم إجازته هذه المرة بارداً ولكنه أصر أن يخرج كعادته للشرفة وضع القهوة والراديو في مكانهم وبدأ في القراءة. لاحظ عصفور صغير طار من على السور أمامه إلى الشرفة المقابلة ووقف على الزهور الخاص بها - أو به. ابتسم ابتسامة صافية، وعدل من مكان نباتاته ووضعها في الشمس وتأكد من نظافة شرفته. وقال لنفسه وهو يضع الكتاب على الطاولة بعد أن أنهاه:
- النهاية سعيدة برد ... بس مش مشكلة المرة دي.