Sunday, November 17, 2019

السيدة مالين – الجزء الأول



بمجرد أن أغلق الباب شعر وكأن الشقة أصبحت أوسع، أوسع مما يجب. ذلك الهدوء الزائد يجعله يفكر أكثر من المطلوب ويتساءل لو أنه تسرع في يعيش وحيدا، وليس فقط وحيدا ولكنه وحيد في بلد غريبة وبعيدة عن مدينته. حاول أن يشغل نفسه بأن يفرغ الحقائب ويضع كل شيء في مكانه، ولكن ذلك الشعور الغريب الذي بداخله بدى وكأنه مرض يتفشى في داخله. قرر أن يعود للفندق الذي نزل به قبل أن يقوم بتأجير تلك الشقة وبرر ذلك لنفسه أنه الشقة ليست جاهزة بعد، والتأجيل بالطبع ليس له علاقة بالشعور الغريب الذي ينتابه. انتهى من ترتيب أشيائه ليلا وقرر أن يغادر الشقة ليعود للفندق. وهو في طريقه للباب الخارجي قابل سيدة عجوز في الممر الذي بين باب الشقة والباب الخارجي. حاول أن يشرح لها أنه المستأجر الجديد للشقة ولكنها بدت أنها لا تفهمه ويبدو أنها لا تتحدث إلا لغة تلك البلد الغريبة ولا تعرف شيء عن اللغة الإنجليزية. هرب من المكان خوفا من تظن السيدة أنه 
شخص جاء ليسرق البيت. بات هذه الليلة في الفندق، وبعد يومين لم يجد مفر من أن يقضي أول يوم في الشقة الجديدة وحيدا.
مر نهارأول يوم بسلام وقبل غروب الشمس بقليل، لمح شبح شخص يمر من أمام نافذة المطبخ، ثم سمع طرق خفيف على الباب. نظر من خلال ثقب الباب فوجد سيدة عجوز. تفاجئ وازداد ذلك الشعور الغريب بداخله أكثر. فهو شخص مجهول بالنسبة لسكان هذه المدينة. واستعد لأن يسمع جمل عن أنه لا ينتمي لهذا المكان وربما يسمع بعض التهديدات. ولكنه تفاجئ بالعكس تماما، وجد سيدة عجوز هادئة، تسأله أسئلة كثيرة بلغة البلد التي لا يفهم منها شيء. لم تعطه فرصة أن يشرح لها أنه لا يفهم حرف مما تقول ولكنها كانت تبدو انها تدرك ذلك، ولعلها شعرت بأنه لا بأس بقصة أو اثنتين حتى لو لم يفهم شيء. بدأت وأنها تحكي عن المكان وربما ترحب به أو تحكي عن أولادها التي سيعرف لاحقا أنهم ثلاثة. لم يستطيع ان يقطع حديثها ولكنه وقف مستمع وحاول أن يستخدم هاتفه لكي يترجم الحديث ولكن السيدة العجوز لم تفهم الأمر. اكتف بابتسامة وهي ردتها له بابتسامة أخرى أكثر دفئا. ودعته وتركته وفتحت الباب المقابل له ودخلت شقتها.  عندما أغلق الباب اكتشف ان هناك دفء تسلل من الباب بالرغم من برودة الجو. شعر للمرة الأولى أن تلك الشقة الصغيرة قد أصبحت بيته الجديد.  لم يعرف أسم جارته ولم يعرف أي شيء عنها تقريبا ولكنه شعر بأن لديها الكثير من الحكايات التي يود أن يسمعها فتلك السيدة قدمت له هديته غالية وجعلته ينام تلك الليلة مرتحا. 


Wednesday, July 17, 2019

لقاء



لم يقطع ذلك الصمت الرهيب سوى صوت الماء وهو يغلي. كانت تجلس أمامه وكأنها تجلس أمام شخص غريب. أستأذنها وقام ليصب الشاي. دارت هي بعينيها في المنزل فهناك شيء ما منعها من أن تقوم وتدور فيه، وشيء أقوى منعها من أن تدخل غرفتها القديمة. لعلها شعرت وكأنها ستجد تلك الفتاة الصغيرة جالسة على سريرها تأن وتتوجع وتبكي دون أن يصدر عنها صوت مسموع وعلامات الضرب بادية عليها. كانت الجدران كئيبة كما تركتها والشبابيك يعلوها التراب. كل شيء كما هو، تماما كآخر زيارة لها منذ خمس سنوات عند مرض أمها وقضت في ذلك المنزل شهر كامل حتى رحلت أمها ورحل معها كل أسباب بقائها في ذلك المنزل. ومع رحيل أمها بدأت المشاكل مع زوجها أيضا فكيف لها أن تقضي شهر كامل بعيد عن منزلها وتترك زوجها وحيدا، خمس سنوات شعرت بنفس الألم القديم مع اختلاف صوَره. انتهى كل شيء مع زوجها منذ أيام قليلة عندما أكتشف أنها لا تنجب ولم يجد أي سبب إذا في بقائهم معا وأخبرها أنه ليس لها حق في الشقة ولن يعطيها سوى سيارة قديمة ومبلغ صغير من المال مقابل "العِشْرة" التي بينهم وأن عليها أن تبحث لها عن حياة أخرى بعيدا عنه.
عاد أبيها وهو يحمل أكواب الشاي. تأملت وجهه، كانت السنوات الخمس واضحة عليه وعلى تلك التجاعيد الجديدة. ولكن شيء ما تغير لم تدرك ما هو بعد. بدأت هي الكلام قائلة:
- شكرا يا بابا، مكنش له لزوم التعب.
- تعب ايه بس يا لبنى، كفاية الانتي فيه.
- معلش ، انا مكنش عندي أي مكان تاني أروحه. انا هقعد هنا يومين لحد ما اظبط مكان مع واحدة صاحبتي وكلمت حد هيشوفلي شغل تاني مع شغلي وربنا يسهل.
- متقوليش كده يا بنتي ، ده بيتك وانا باخد ايجار الشقق في العمارة بيكفيني وزيادة اوي، فخليكي هنا.
سمعت هي جملة أبيها وكأنها لم تعني لها أي شيء. كانت تشعر وكأنها طائر محاصر قد انهكته الهروب الدائم ممن يريد افتراسه. سمعت صوت دقات ضعيفة على الباب ووجدت أبيها يقوم سريعا وهو يقول: "ده أكيد محمد". ووجدت ملامح أبيها تتغير وارتسمت على وجهه ابتسامة لم ترها من قبل. فتح الباب فدخل صبي صغير وحضن أبيها حضن لم تنله هي كثيرا عندما كانت في سنه، وأخرج أبوها مبلغ من المال من محفظته وأعطاه له وهو يقول: "متقولش لأبوك بقى". ثم عاد وجلس أمام أبنته أخبرها أن هذا الصبي هو محمد حفيد الحاج مصطفى جارهم في الدور علوي وأن أبنه هو من يسكن البيت الآن. شعرت هي بحيرة كبيرة وهي تتذكر كيف أن أبيها لم يكن يتحمل لعبهم وهم صغار هي وأخوها. ولم يفرق بينهم الاثنين، لا الولد ولا البنت فكلاهما نال حظه من المعاملة السيئة. فحتى في مرض أمها لم يتحمل صراخ حفيدته، أبنة أخوها محمود، والذي أقسم بعد وفاة والدته ألا يدخل هذا البيت من جديد. شيء ما بدا غريبا في أبيها غير علامات السن التي تبدو طبيعية مقارنة بالأشياء الأخرى. سألها عن حالها، وعن حال محمود أخوها وأنه لم يعرف شيء عنهم برغم محاولاته للوصول إليهم. وبالطبع خص بالذكر محمود وأنه يعرف أنه قد سافر وحصل على عنوانه ورقم تليفونه وحاول الاتصال به دون جدوى، بل وأرسل إليه بخطاب. وكان يحاول أن يمازحها بشأن إرساله لخطاب وكأنه يعيش في عصر قديم ولكنه بدى وكأنه يخفي ألم أكبر، هل يكون ذلك ألم إنكار ابنه الكبير وجوده؟ ظهر ذلك السؤال الغريب في رأسها وهي تنظر إلى الأرض وتتذكر عندما أخبرها محمود بشأن الخطاب وأنهما ضحكا بخصوص ذلك ولم يفكرا حتى في الرد. بعد ذلك حدث شيء أكثر غرابة، قام أبيها من مكانه وتوجه نحو خزانة قريبة وأخرج صندوق لم يكن عليه أي تراب وبدا وكأنه يخرجه كثير من ذلك المكان. فتح الصندوق وأخرج صور لهم كثيرة وأشياء احتفظ بها من طفولتهم وأخذ يحكي قصة كل صورة وكل ورقة في ذلك الصندوق ويتوقف من الوقت للآخر ليداري دموعه التي لم ترها أبنته في حياتها أبدا. لم تستطع هي أن تفعل الأشياء التي يفعلها الأولاد لآبائهم في تلك المواقف، لم تستطيع أن تحتضنه وأن تقبل رأسه وتخبره أنه كان أفضل اب في الدنيا وأفضل صديق وأفضل أخ ، لم تستطع ذلك أبدا. ولكنها فعلت شيء آخر جديد عليها، استمعت لكل كلمة يقولها ولأول مرة كانت تستمع له بقلبها وليس بأذنها فقط هروبا من العقاب. فجأة لمعت عيناه وكأنه وجد شيء ثمين، أخرج سلسلة ذهبية من صندوق صغير، وقال وهو يبتسم:
- دي أخر هدية جبتها لأمك الله يرحمها، أول ما عرفت بمرضها نزلت يوميها بليل جبتها ليها، كان نفسها فيها من زمان وانا كنت بفضل اتحجج بأي حاجة، بس ساعتها حسيت انه خلاص مفيش حجج. انا فاكر كانت مبسوطة بيها ازاي الله يرحمها وقالتلي كنت خلي الفلوس دي للعلاج ولا للعيال .. وبعد ما قالت العيال سكتت كده وانا عارف هي سكتت ليه ..
هذه المرة لم يستطيع أن يداري دموعه انطلقت وكأنه هو الطفل الذي يختبئ من الغرفة، ولكن الألم هذه المرة يأتي من أشياء كثيرة ويأتي من سنين طويلة. وجدت نفسها لأول مرة ترتمي في حضنه وهي تقول:
- هو ايه الحصل يا بابا؟
- مفيش يا بنتي، كنت فاكر انا كده هطلعكو للدنيا ناشفين، وبعد ما أمك الله يرحمها تعبت ، لقيت نفسي لوحدي. مكنتش عايز أعيش، وبعدين الواد محمد الشفتيه ده لقيت أهله بيسبوه معايا من وهو في اللفة، وكبر على أيدي وحبيته وخفت عليه بس عمري ما زعلته وبعدين أفتكرت انا عملت معاكم ايه ، بس واضح انه كان متأخر أوي.
لم يشعرا بالوقت يمر، لأول مرة لا يبدوا الوقت أبطا من المعتاد وهما يجلسان وحيدان. كانت تدري بأن بعض الجراح القديمة لن تلتئم قريبا ولكن الوقت قد لا يمهلها أن تلتئم ففضلت أن تبقى في هذا الحضن الغريب الذي يبدو لأول مرة مألوفا لها. 


Sunday, July 7, 2019

جار جديد

بالرغم من أن اليوم في منتصف الشتاء إلا أن ذلك لم يمنع الشمس أن ترسل بعض الدفء إلى شرفته التي كان يستند إلى إحدى حوائطها. يضع كوب القهوة في طاولة صغيرة أمامه وبجانبها الراديو الصغير الخاص به وتنبعث منه صوت موسيقى هادئة تكاد تكون غير مسموعة. كان يقرأ إحدى الروايات التي يود أن يقرأها في هذا الشهر. وضع الكتاب بهدوء بجانب كوب القهوة وهو يتساءل كيف للكاتبة أن تجعل النهاية سعيدة إلى هذا الحد وشعر وكأنها أفسدت الكتاب بتلك النهاية. قطع روتين يوم إجازته صوت سيارة نقل كبيرة تقترب من باب البيت ووقفت بجانب العمارة المقابلة لشرفته ونزل منها ثلاثة رجال ووقفوا ينتظرون شخص ما. جاءت هي خلفهم بسيارتها الصغيرة ووقفت أمام السيارة النقل ونزلت وهي وتبحث عما يبدو عن مفاتيح المنزل وهي تشير لهم أن هذا هو المكان وبدأ الجميع بالتحرك لنقل الأثاث من داخل السيارة إلى الشقة. خرج البواب مسرعا من مدخل العمارة وبدا أنه يرحب بالسيدة ترحيب حار. لأول مرة منذ أن بدأ عمله وسكن هذه الشقة – منذ عامين تحديدا – ينفتح باب الشرفة المقابلة لشقته وظهرت هي من خلف الباب. انعقد لسانه وشعر وكأن الكلام قد تبخر من عقله، ومن الواضح أنها شعرت بالحرج فبادرت هي بالحديث وقالت تبتسم:
- صباح الخير، انا جارتكم الجديدة ان شاء الله  
فرد هو سريعا وهو يحاول أن يصلح الأمر:
- صباح النور، حمدلله على السلامة. محتاجين مساعدة أو حاجة؟
ابتسمت من جديد وقالت:
- لا شكراً
وأسرعت للداخل وهي تتحدث لحد الرجال وتشير له بأن يضع قطعة من الأثاث في مكان ما في الغرفة.
دار بنظره في شرفته سريعا فوجد في الركن نباتات يبدو بأنها ماتت منذ وقت طويل والتراب يغطي كل شيء، وتساءل منذ متى والشرفة بهذا المنظر القبيح. أنتظر ان تغلق هي باب الشرفة وقام بتنظيف شرفته سريعا وقام بتغيير كرسيه القديم بآخر جديد كان اشتراه لمكتبه بالشقة وفي صباح اليوم التالي أشترى نبتة جديدة وبعض الزهور ووضعهم في الشرفة، صادف ترتيبه للزهور خروجها من جديد. تظاهر هذه المرة أنه لم يسمع صوت باب الشرفة ولم يرها تخرج، فضل ذلك على أن يعود إلى ذلك الحرج من الجديد. فجأة سمع صوت شيء يسقط من شرفتها وتبعه صوت شيء ينكسر. نظر بسرعة فوجد أنها هي الأخرى كانت تحاول أن تثبت وعاء به زهور على سور شرفتها ولكنه سقط منها. لاحظ ضيقها من الأمر ودخلت مسرعة إلى شقتها. انتهز هذه الفرصة وأخذ زرعته الجديدة وذهب إلى شقتها، وقف أمام الباب وهو يرتب ما سيقوله ، فجأة يفتح الباب وتخرج هي مسرعة وكانت على وشك أن تصطدم به ليقول هو بسرعة:
-احم ، انا جارك هنا
تفاجأت من وجوده، قبل أن تتحول تعابير وجهها وتبتسم عندما تلاحظ النبتة في يده وتفهم لماذا جاء.
- اه، اهلا وسهلا، محتاج حاجة؟
- لا انا شفت الزرعة وقعت وانا كان عندي الورد ده فقلت يبقى هدية الشقة الجديدة
ابتسمت ابتسامة عريضة واخذتها بسرعة قبل أن تشعر بالحرج وتقول:
-معلش اخدتها بسرعة، الورد شكله جميل، بس خليه عندك في البلكونة أحسن
-لا منا هقدر اشوفه من عندي في البلكونة وعلى الأقل هتفتكري تسقيه كل يوم
ظل واقف على باب البيت ساعتين كاملتين يتبادلان الحديث عن كل شيء بداية من السبب مجيئها إلى تلك المدينة لتعمل كمعلمة بالمدرسة مرورا بعمله ككاتب في الجريدة الصغيرة التي بالمدينة ووصولا إلى كل القضايا الفلسفية الهامة وعندما لاحظ أن الشمس بدأت تغيب والليل يقترب أستأذن قائلا
- أنا هرجع الشقة، مش عايز أعطلك
وتبادلا ابتسامة من القلب فكلاهما أدرك أنهم قد تعاطلا بالفعل. مرت الأيام سريعا وهما يتبادلان الحديث من وقت للآخر وكل هما يجلس في شرفته ، كانت الشرفة هي مكان لقائهما.
حتى حدث مشكلة في عمله وأضطر إلى أن يحل محل صديق له لتغطية حدث في مدينة بعيدة وعليه السفر أسبوعا كاملا، عاد إلى البيت وأنتظر في الشرفة ولكن يبدو أنها تأخرت في المدرسة. كان عليه أن يرحل في ذلك اليوم وشعر بالضيق من أنه لم يودعها ولكن لم يجد مفر من ذلك. مر الأسبوع بطيئا عليه وأول شيء فعله عندما عاد إلى البيت هو الخروج إلى الشرفة ولكنه لم يجدها أيضا. مر يومان ولم تظهر، وأخيرا عندما وجد الباب ينفتح كان البواب ودخل وسقا الزرع ودخل من جديد. أستغرب الموضوع كثيرا، هل رحلت؟ وشعر بغبائه أنه لم يسألها عن رقم تليفونها أو عنوانها أو أي وسيلة أتصال بها. نزل من بيته وهو يسير بخطوات بطيئة ، وعندما وصل إلى شقتها طرق الباب ولكن لم يجيب أحد. سئل البواب عن سر اختفاء السيدة فرد عليه:
- والله مش عارف، هي قالتلي أهم حاجة أسقي الزرع كل يوم وأنضف البلكونة وأنها هترجع قريب، غير كده معرفش.
- وفلوسك طيب بتاخدها ازاي؟
- هي دفعتلي الشهر مقدم، وأبوها الله يرحمه خيره عليا كتير فكأن فلوس كل شهر وصلت.
كان يود أن يسأله عنها أكثر ولكنه شعر بأن الأمر سيبدو غريبا فشكره وأنصرف.
كان يوم إجازته هذه المرة بارداً ولكنه أصر أن يخرج كعادته للشرفة وضع القهوة والراديو في مكانهم وبدأ في القراءة. لاحظ عصفور صغير طار من على السور أمامه إلى الشرفة المقابلة ووقف على الزهور الخاص بها - أو به. ابتسم ابتسامة صافية، وعدل من مكان نباتاته ووضعها في الشمس وتأكد من نظافة شرفته. وقال لنفسه وهو يضع الكتاب على الطاولة بعد أن أنهاه:
- النهاية سعيدة برد ... بس مش مشكلة المرة دي.

Thursday, June 13, 2019

أيهما أصعب سمكة بدون بحر أم بحر بدون سمك؟



للوهلة الأولى تبدو الإجابة واضحة ومنطقية. فالسمك يموت خارج البحر، قد يبقى لفترة تطول أو تقصر ولكنه في النهاية و على الأرجح في دقائق قليلة سيموت ولكن هل معنى ذلك أن موقفه أصعب من البحر؟ الإجابة هي لا.
السمك عندما يخرج من البحر يعلم تمام العلم أنه سيموت أو بالأحرى أنه بدأ في ذلك بالفعل، قد يحاول النجاة وذلك بطريقة واحدة وهي العودة للبحر أو قد يسلم وينتهي الأمر ويودع ما يستطيع توديعه ويتلو صلواته الأخيرة ويستعد للرحيل.
أما البحر بدون السمك فسيفاجئه سؤال صعب ، "ما فائدة كل ذلك؟" ما فائدة الماء والموج والشواطئ والرمال إن كان ليس هناك ساكن لها، ما فائدة مداعبة القمر ليلا بمد وجزر إن كان الأمر بدون مشاهدين. سيكون الأمر وكأنه يموت كل ليلة ولكنه عليه أن يحيى ذلك الموت كل ليلة، عليه أن يعيش مع ذلك الصمت الذي يمتد بامتداد مياهه. وستبدو الأمواج وهي تعود إلى شاطئ كمسافر بعيد أتى ولكنه لم يجد من يرحب به وسيرحل بدون أن يجد مودع له. ويبقى أمله أن تتسلل سمكة وسط هذا الصمت لتقطع ليالي الموت الطويلة وتجعل من كل ذلك فائدة.
ذلك الإجابة دائما البحر بدون سمك أصعب مئات المرات من سمكة بدون بحر

Tuesday, April 9, 2019

ندبة


استيقظت في موعدها في تمام السابعة وبالرغم من أن أمامها أكثر من ساعتين لتصل لمكان علمها الذي يقع مسافة قريبة من منزلها إلا أنها تعلم أنها ستصل متأخرة على أي حال. قامت من فراشها ببطيء، لم يكن ذلك الجزء الأصعب من بداية اليوم. الجزء الأصعب يكون ما بين المنزل والمكتب ثم طريق العودة من المكتب إلى المنزل مرة أخرى. ببساطة الجزء الصعب يكون حينما تقابل الناس. سمعت صوت رنين  تليفونها المحمول بجانب فراشها، أسرعت لترد:
- ألو ، ماما ، صباح الخير
- صباح النور، عاملة أيه أنهاردة؟ متنسيش تفطري قبل ما تروحي الشغل
- حاضر يا ماما
- ومتنسيش فرح صحابتك انهاردة
- مش عارفة هعرف أروح ولا لأ حاسة أني تعبانة
تقول أمها بنبرة مازحة: - انا هكلمها أقولها أنك بتدلعي ومش عايزة تشوفيها يوم فرحها.
وقفة أمام المرآة أكثر من نصف ساعة كعدتها، تحاول أن تخفي تلك الندبة التي تغطي جانب وجهها وتشعر وكأنها تكبر كل يوم. كم تتمنى لو أنها لم تخرج من منزلها يوم الحادث ولكن حدث ما حدث والآن عليها أن تخفي أثاره. تحرك شعرها يمين ويسار وتحرك خصلات معينة لتستقر وتغطي الندبة تماما. هي تكره أن يكون شعرها بهذا الشكل، هي تريد أن تربطه وتقوم بتجميعه خلف رأسها ولكن ذلك يعني أن تظهر الندبة كاملة وحينها تشعر وكأنها تقف في متحف وجميع يريد أن يشاهد المنظر العجيب.
خرجت إلى الشارع مسرعة تحاول أن تصل إلى مكتبها حتى تتأخر أكثر من اللازم. جلست في مكتبها طوال اليوم تقوم بأعمال الترجمة المطلوبة منها، لم يقطع ذلك سوى اتصال صديقتها.
- ألو..
- بقى انتي بقى مش عايزة تيجي فرحي؟
ضحكة صغيرة ثم: - والله كنت عاملة حسابي آجي ونزلت أشتريت الفستان أمبارح وقعدت سنة لحد ما لقيت واحد حلو. بس انت عارفها بقى من ساعة العملية ...
قاطعتها صديقتها بصوت حاد: - عملية أيه؟ كفاية دلع! انتي مش عايزة تشوفي حد، بس ده فرحي ولو مجتيش متكلمنيش تاني ولا أقولك ومجتيش مش هتجوز.
ردت مرغمة: - حاضر حاضر

غادرت عملها مبكرا حتى تستعد لذلك الكابوس الذي أرغمت عليه، فأي شيء أسوأ من حضور مثلك ذلك الحدث لكي تتذكر أنها لم تعد كما السابق أو الأسوأ أنها لم تعد مثل الجميع. عادت من جديد أمام المرآة بعد أن أردت الفستان وقفت لدقائق تشاهد شكلها بالفستان والتي اختارته بعناية شديدة لأنها تريد أن تبدو جميلة في ليلة من المفترض أن تكون سعيدة. غادرت المنزل وهي تحاول أن تخفي أي آثار للدموع التي فوجئت بها وتلقي نظرة أخيرة على الفستان ولكنها لم تستطيع أن تخفي الندبة تماما.
وصلت لمكان العرس وسلمت على صديقتها وجلست على طاولة جمعت أصدقاء الجامعة. كان عليها أن ترد على سيل من الأسئلة عن الحادث والعملية وما إن كانت ستقوم بعمليات تجميل –وكأنها لم تفكر في ذلك- كان عليها أن تجيب على كل هذه الأسئلة كما لو أنها في تحقيق. انتهزت فرصة قيام الجميع إلى مكان تناول الطعام لكي تخرج خارج القاعة هربا من الأسئلة والنظرات. وجدت نفسها تقف في الشارع بدون أي سبب مقنع فحاولت أن تتظاهر بأنها تقوم بعمل أتصال تليفوني. لاحظت ان هناك شابا يقف على الجهة الأخرى من مدخل القاعة ويبدو أن خرج لكي يدخن السجائر. كان بإمكانها أن تشعر بنظراته نحوها. حاولت أن تتجاهل الأمر ولكنه أقترب منها فشعرت بتوتر كبير فهي لا تتذكر آخر مرة تحدثت فيها إلى شخص غريب وبالأخص شاب في مثل عمرها، وكانت تفكر لو أنه هو الآخر سيسأل عن الحادث!
- يا آنسة
- نعم؟
-ليلى صح؟
- اه، انت مين؟
- انا ماهر، كنت حضرت معاكي ورشة الترجمة من سنتين وكانت صاحبتك العروسة معانا كمان.
- آه افتكرت
لم ترد على كلامه فحاول أن يقطع هو ذلك الصمت:
- الكتاب ده وقع منك وانتي بتطلعي التليفون
وانحنى ليلتقط الكتاب واعطاه ولها، ولكنها لم ترد وتظاهرت أنها تكمل حديثها في التليفون.
وجه حديثه لها من جديد وهو مبتسم: - انا مش عارف مين بيروح فرح بكتب .. وقبل أن ترد عليه وكان على ثقه بأنه سيسمع كلام لن يعجبه،  أكمل حديثه – بس هي رواية جميلة بصراحة ، لو كان فرحي انا كان ممكن اخدها عادي .
لم تستطيع أن تقاوم الابتسام وتعجبت من أن نظرته بدت وكأنها تراقب ابتسامتها وليس التأمل في والندبة.
- التليفون رن على فكرة وانتي "بتتكملي" فيه، واضح انك كارها الفرح أصلا وجاية غصب عنك
- اه ، مش بحب الأفراح أصلا
- في مكان قريب من هنا بيعمل قهوة حلوة أوي، تحبي نروح؟
- بصراحة احساسي اني عايزة امشي بأي طريقة ، ماشي
كانت المرة الأولى منذ وقت طويل أن تمشي في الشارع بهدوء وبدون أن تشعر أنها تريد أن تهرب من نظرات الناس. فحديثها معه لم ينقطع طول الطريق وحتى وصلا للمقهى وأستمر الحديث أثناء شرب القهوة. لم تتحدث عن العملية والحادث وكأنها نسيتهم بكل كان حديثها أن كل شيء تحبه وتكرهه وعن أراءها الفلسفية وحبها الشديد للكتب وكان هو يجاريها الحديث وكأنها تعرفه منذ وقت طويل ولم يتقبلا منذ لحظات فقط. لم يشعرا بالوقت يمر إلا عندما اتصل به أخوه يسأله عن مكانه لأنهم على الوشك التحرك من مكان العرس. سألته بتعجب:
- هو أنت اخو العريس؟!
- آه
- امال ازاي  مشيت من الفرح كده؟
- يعني هو خلاني اقعد في الدوشة دي بالعافية وهيضيع عليا أني أقابلك كمان!
عادت إلى المنزل وبقيت واقفة لا تتحرك لثواني أمام المرآة ، فخلال وقت ما من الليلة قامت بربط شعرها وتجميعه خلف رأسها، ولأول مرة تشعر وكأن الندبة صارت أصغر ولا يبدو شكلها مزعجا جدا ..