Friday, October 28, 2016

هل


خارت قواه، لم تعد تحمله ساقيه ولم تجد محاولات يديه في الوقوف نفعا. رائحة التراب تملأ أنفه وبإمكانه رؤية السور يمتد إلى ما لانهاية، يتخطى السماء والنجوم ويعبر صدره حتى منتصف القلب. أدرك أن هكذا يعشر الطائر الذي تكسرت جناحيه بعد ان طاف العالم شرق وغربا، أو محارب أنكسر سيفه وهو نائم في البيت فصار فانهزم دون معركة بعد أن قضى عمره في المعارك أو لعله شعور القارب الذي قطع المحيطات والعواصف ثم أكل حديده الصدأ وتكسرت اخشابه وهو على المرفأ منتظر.
كان في البداية سؤاله، "متى يأتي الصباح؟" ثم تحول إلى "هل يأتي الصباح؟". ثم نسي السؤال تماما .. أحيانا يتذكر تلك الليالي التي كان القمر مؤنسه، كان يأتي كل ليلة مهما طالت ويبقى حتى شروق الشمس. ولكن يبدو أن  السور حجبه أو رحل .. فكانت النتيجة بأن الصباح لم يعد يأتي والليل صار بدون قمر.
ولكن أحيانا يلوح شبح ضوء يألفه منذ زمن ، أحيانا تلمع نجمة من بعيد ثم تختفي، يظهر ما يشبه بداية صباح ، يتحرك ما يبدوا وكأنه قمر خلف سحب ثقيلة. يتساءل لو أنه هناك شيء ما ينتظر.. ولكن يبقى الجرح في القلب عميق وتبقى الدموع مختلطة بالتراب وكأنها صارت كقيد لا يتحرك يجعله يفقد الأمل فكل ما يمكن انتظاره.
تمر بعقله خاطرة .. يتذكر حكاية الرجل الذي عاش حياته وكأنه في غرفة مظلمة بالرغم من أن البحر يمتد من أمامه بكل قوة وفخر حتى أتاه العصفور وصادقه زمنا ورحل. هل ذلك السور هو مجرد وهم؟ ولكن الجرح لا يكذب ، لا الألم لا يُتوهم ، ليس بهذه الشدة.

هل يأتيه طائر؟ هل يعود الصباح أو يظهر القمر؟ لا يعرف .. لا يعرف ولكن رائحة التراب صارت كريهة 

Wednesday, October 26, 2016

البحر في زجاجة

كان يسير بمحاذاة الشاطئ يفصله سور صغير عن الرمال ومن خلفه البحر والموج. الشمس كانت ما تزال تحاول الوصول إلى السماء لكي يبدأ الصباح. قاطع أفكاره طفلة صغيرة كانت تقف خلفه في صمت وتوزع نظرها بينه وبين البحر بالتساوي.
سأهلها بصوت هادئ: "هل بإمكاني مساعدتك؟"
الطفلة:" لا أعلم. هل يمكنك؟"
هو: "أخبريني الأمر وسأحاول قدر المستطاع."
الطفلة: "حسنا.. سأحاول أن الشرح الأمر وأتمنى أن تفهم. كما ترى أنا طفلة ولازلت أعيش مع أهلي في المنزل. ومن وقت لآخر أفعل شيء يغضب أبي وعندما يغضب جدا يهددني بأنه سيحبسني في زجاجة ولا يفتحها أبدا حتى أعتذر عما فعلت.."
صمتت قليلا وعندما أوشك على أن يرد عليها عادت إلى لتستكمل حديثها قائلة:
" ولكن هذه ليست المشكلة.. المشكلة الحقيقية تكمن عندما أتينا إلى هذه المدينة الجميلة وعندما قابلت البحر. فاجئني عقلي بسؤال محير .. هل من الممكن أن نحبس البحر في زجاجة كما يهددني أبي  بالحبس؟"
نظر إلى السماء ثم إلى البحر وأعاد النظر إليها بنفس الترتيب ثم قال:
"  وهل تمكن أباك حقا من حبسك في زجاجة؟"
الطفلة: "بالطبع لا.. ولكن هل سأنتظر حتى يحبس البحر أيضا!"
هو: "وماذا تظنين سيحدث للبحر إذا تم حبسه في زجاجة؟"
الطفلة: "لو كنت أعلم ، هل كنت سآتي إلى هنا في حيرة من أمري وأسألك!"
هو: "أظن بالأحرى هناك احتمالين، الأول هو أن يتحول البحر إلى ماء هادئ وكأنه زجاجة ماء عادية جدا، قد يبدوا عليه بعد ملامح الثورة والاضطراب عن تحرك الزجاج ولكن عند وضعها على سطح ثابت لن تلاحظ الفرق بين زجاجة ماء عادية وزجاجة محبوس بداخلها البحر."
الطفلة: "والاحتمال الاخر؟"
هو: "الاحتمال الاخر هو أن يضيق البحر بالزجاجة ويحطمها إلى قطع صغيرة ويظل كما هو بكامل أمواجه ورماله وسماءه يعلو ويهبط ويحدث القمر والنجوم بالليل ويلاعب الرياح والعواصف من وقت لآخر."
صمت كلاهما قليلا وتركا البحر يكمل الحوار بصوت الموج والرياح وكأنها يعلقان على كلامه. ثم سألها:
"أنت ، أي الاحتمالين تفضلين؟"
الطفلة: "الاحتمال الثاني.. لي وللبحر."  
هو: "حسنا حسنا .. أظنك أثبت رأيك ... هيا بعنا نعود للمنزل."

ابتسمت وهي تقول: "ليس الآن يا أبي.. ليس قبل أن أحتفل مع البحر بحريتنا."

Sunday, October 23, 2016

إليك .. مرة أخرى

" عزيزتي ..
كيف حالك؟ أتمنى أن تكوني بخير ومازالت ابتسامتك تطير كل يوم كالعصافير في السماء. مازالت منتظر ردك على رسالتي السابقة، معنى ذلك أنك مدينة لي برسالتين وليست واحدة.
بالرغم من أن اليوم هو يوم الثلاثاء، وهو منتصف الأسبوع، إلا أني قررت أنه سيكون يوم إجازتي. فإجازة نهاية الأسبوع تلك صارت كئيبة ، فكل شيء صار هادئ أكثر من اللازم لذلك أذهب للصحيفة وأنشغل بالعمل. أما اليوم مثلا فقد استيقظت مبكرا ككل يوم وذهبت إلى المقهى وجلست في نفس الزاوية وطلبت القهوة الساخنة باللبن – بدون أن يصحح أحد نطقي لها. أعلم بانك ستقولين أني أقول ما سأقوله الآن مدعيا حتى تتأثري بموقفي وتفكري في عودة سريعة ربما ولكنها الحقيقية، فعندما أجلس في المقهى يكون كرسيك فراغا بالطبع والجهة التي كنت تجلسين فيها صارت باردة، يأتي منها هواء وكأنه آت من القارة المتجمدة مباشرة لا أعلم كيف كنت تحجبيه عني بالرغم من أنك تكرهين البرد. انا فقط أكتب لك الحقائق كاملة بدون زيادة أو نقصان أو أي تغيير. نعود إلى يومي،  أُخرِج صحيفة اليوم وأمر سريعا على صفحاتها وبعد ذلك أقرأ فصلا من رواية ثم أتناسى وأعود إلى كتابة مقالة قد بدأتها ولكني أتوقف سريعا لأن اليوم هو إجازتي وعلي أن أحصل عليها كاملة.
لا أعلم إني أخبرتك بذلك أم لا؟ ولكن كوب القهوة الخاص بك مازال كما تركتيه، فالقاعدة تقول أن كل منا ينظف وراءه في المنزل. ولأول مرة تكون هذه القاعدة في صالحي فكل صباح أرى الكوب الخاص بك فأشعر بوجودك في المكان. خصوصا وأن أحمر الشفاه الخاص بك دائما ما يترك أثر على الكوب ، لم أخبرك ذلك من قبل ولكني دائما ما أكون سعيد بذلك وأشعر بأن الكوب أكتسب شرف من نوع خاص.
أتدرين؟ الحنين هو من أسوأ أنواع الشعور. اتخيل الآن شعور السمك عندما يخرج من الماء ويُطلب منه أن يعيش على الأرض كالبشر. يظل يشتاق للبحر برائحته وموجه ورماله، يعيش طوال حياته مفتقدا وطنه، يصبح التنفس صعبا جدا وثقيلا، وتبدوا الحياة في معظم الوقت كصخرة ثقيلة وضعت على السمكة الصغيرة. كلما رأت البحر ولو من بعيد تشعر بألم شديد يعقبه شعور غامض وكأن الموج يتحرك بداخل تلك السمكة الصغيرة ، يعلو ويهبط كمان اعتادت ان يكون البحر.
أين البحر؟ اين الموج؟
فقط تراب وتراب وتراب. "
طوى الورقة ببطء وأعادها إلى جيب قميصه وأخرج نبتة صبار صغيرة من حقيبة كانت بجانبه وزرعاها في الأرض بجانب أخريات تبدوا أكبر منها. وقبل أن يرفع رأسه فأجأته بعض الدموع، حاول عقله أن يخبره بأنها يجب ألا ترى دموعه ولكن قلبه تمنى بقدر ما تسع الأرض للأماني، تمنى أن تراها.
خرج من هناك دون أن يمسح دموعه وهو يتمتم، "حتى لقاء آخر يا عزيزتي .. حتى لقاء آخر"


Thursday, October 20, 2016

قارب وليلة

سمعت صوت غريب صادر من قاع القارب، حاولت أن تنظر ولكن لا شيء يظهر في تلك العتمة. حركت يديها ببطء فكتشفت أن هناك ثقب صغير في القارب يدخل منه الماء. أنه الغرق لا محالة ...
شعرت بهبوط كبير وكأن جسدها يهوي إلى قاع بئر كبير وأن ثقل العالم كله مثبت على صدرها في نقطة فوق قلبها مباشرة. تسارعت أسئلة عديدة داخل رأسها، وأنتهى صراع الأفكار والأسئلة بداخل عقلها باستنتاج وحيد.. الاستسلام ، لا مفر من الغرق في قاع ذلك البحر المظلم الذي ليس له بداية أو نهاية، فقط أمواج تعلو وتهبط في هدوء وبصوت ألفته أذنها.
فجأة لمع ضوء في السماء وكأن النجوم والقمر رموا سماء الأرض بصخرة مضيئة. تفاجئت بشيء  على الجهة الأخرة.. كان هناك طفل ينظر إليها بعنين لامعتين مملوءة ببراءة وكأنها سماء صافية جاءت بعيد يوم مطير. لم يكن أي طفل، بل طفلها!
كيف لأم أن تنسى أبنها، هكذا سئلت نفسها. كيف لها أن تنسى تلك اللحظة، لحظة ولادة أبنها عندما كانت لازت على الشاطئ تراقب البحر في صمت وترقب. منذ تلك الليلة التي ولد فيها وهي في البحر مع الموج تعلو وتهبط والصغير بين يديها تحمله فتشعر الدفء، تتمسك به جيدا فيضيئ البحر والسماء المظلمة، ماذا حدث؟
لعلها العاصفة التي أتت خلف العاصفة، لعلها الجزر الصغيرة التي علق بها القارب ، أو لعله الملاح صديقها الذي فقدته ، الملاح الذي علمها السماء والنجوم وعملها أن تمسك صغيرها دون أن تلفته ولكن في ليلة من تلك الليالي فقدته وهي عالقة في أحد تلك الجزر المظلمة. هو لم يعرف ذلك ، لم يعرف أنها راقبته وهو ينظر إلى السماء والنجوم وراقبته وهو يحمل صغيرها وتعلمت كيف لها أن تدخل العاصفة دون أن تغرق. وفي النهاية فقدته ...

تحركت ببطء في القارب المهتز من قوة العاصفة والماء المتسرب، تحركت وقلبها يهتز من شدة العتمة والظلام وهي تبحث عن قمر أو نجمة ضلت طريقها في السماء مثلها تماما. أمسكت بصغيرها فتذكرت كل شيء، تذكرت كيف ان ذلك الطفل كان بحجم كفها الصغير وأنه كبر كل يوم شبرا وكان يكبر مع كل ليلة وكل عاصفة ، وكأنه شجرة تشتد مع الزمن. شعرت بدفء يتسرب بداخلها ولمعت بعض النجوم وحتى القمر ظهر. وضعت يدها بقوة على ثقب القارب وكأنها تخبر البحر بانه ليس اليوم .. لعلها قد تغرق ولكن ليس اليوم. أمسكت بصغيرها وراقبت السماء تماما كما كانت تفعل مع الملاح صديقها منتظرة يوما أن تصل .. مازالت في البحر بين الموج والعواصف، أحيانا تنسى صغيرها ولكنه يعود ليذكرها من جديد كيف كل شيء بدأ ..