Friday, October 28, 2016

هل


خارت قواه، لم تعد تحمله ساقيه ولم تجد محاولات يديه في الوقوف نفعا. رائحة التراب تملأ أنفه وبإمكانه رؤية السور يمتد إلى ما لانهاية، يتخطى السماء والنجوم ويعبر صدره حتى منتصف القلب. أدرك أن هكذا يعشر الطائر الذي تكسرت جناحيه بعد ان طاف العالم شرق وغربا، أو محارب أنكسر سيفه وهو نائم في البيت فصار فانهزم دون معركة بعد أن قضى عمره في المعارك أو لعله شعور القارب الذي قطع المحيطات والعواصف ثم أكل حديده الصدأ وتكسرت اخشابه وهو على المرفأ منتظر.
كان في البداية سؤاله، "متى يأتي الصباح؟" ثم تحول إلى "هل يأتي الصباح؟". ثم نسي السؤال تماما .. أحيانا يتذكر تلك الليالي التي كان القمر مؤنسه، كان يأتي كل ليلة مهما طالت ويبقى حتى شروق الشمس. ولكن يبدو أن  السور حجبه أو رحل .. فكانت النتيجة بأن الصباح لم يعد يأتي والليل صار بدون قمر.
ولكن أحيانا يلوح شبح ضوء يألفه منذ زمن ، أحيانا تلمع نجمة من بعيد ثم تختفي، يظهر ما يشبه بداية صباح ، يتحرك ما يبدوا وكأنه قمر خلف سحب ثقيلة. يتساءل لو أنه هناك شيء ما ينتظر.. ولكن يبقى الجرح في القلب عميق وتبقى الدموع مختلطة بالتراب وكأنها صارت كقيد لا يتحرك يجعله يفقد الأمل فكل ما يمكن انتظاره.
تمر بعقله خاطرة .. يتذكر حكاية الرجل الذي عاش حياته وكأنه في غرفة مظلمة بالرغم من أن البحر يمتد من أمامه بكل قوة وفخر حتى أتاه العصفور وصادقه زمنا ورحل. هل ذلك السور هو مجرد وهم؟ ولكن الجرح لا يكذب ، لا الألم لا يُتوهم ، ليس بهذه الشدة.

هل يأتيه طائر؟ هل يعود الصباح أو يظهر القمر؟ لا يعرف .. لا يعرف ولكن رائحة التراب صارت كريهة 

Wednesday, October 26, 2016

البحر في زجاجة

كان يسير بمحاذاة الشاطئ يفصله سور صغير عن الرمال ومن خلفه البحر والموج. الشمس كانت ما تزال تحاول الوصول إلى السماء لكي يبدأ الصباح. قاطع أفكاره طفلة صغيرة كانت تقف خلفه في صمت وتوزع نظرها بينه وبين البحر بالتساوي.
سأهلها بصوت هادئ: "هل بإمكاني مساعدتك؟"
الطفلة:" لا أعلم. هل يمكنك؟"
هو: "أخبريني الأمر وسأحاول قدر المستطاع."
الطفلة: "حسنا.. سأحاول أن الشرح الأمر وأتمنى أن تفهم. كما ترى أنا طفلة ولازلت أعيش مع أهلي في المنزل. ومن وقت لآخر أفعل شيء يغضب أبي وعندما يغضب جدا يهددني بأنه سيحبسني في زجاجة ولا يفتحها أبدا حتى أعتذر عما فعلت.."
صمتت قليلا وعندما أوشك على أن يرد عليها عادت إلى لتستكمل حديثها قائلة:
" ولكن هذه ليست المشكلة.. المشكلة الحقيقية تكمن عندما أتينا إلى هذه المدينة الجميلة وعندما قابلت البحر. فاجئني عقلي بسؤال محير .. هل من الممكن أن نحبس البحر في زجاجة كما يهددني أبي  بالحبس؟"
نظر إلى السماء ثم إلى البحر وأعاد النظر إليها بنفس الترتيب ثم قال:
"  وهل تمكن أباك حقا من حبسك في زجاجة؟"
الطفلة: "بالطبع لا.. ولكن هل سأنتظر حتى يحبس البحر أيضا!"
هو: "وماذا تظنين سيحدث للبحر إذا تم حبسه في زجاجة؟"
الطفلة: "لو كنت أعلم ، هل كنت سآتي إلى هنا في حيرة من أمري وأسألك!"
هو: "أظن بالأحرى هناك احتمالين، الأول هو أن يتحول البحر إلى ماء هادئ وكأنه زجاجة ماء عادية جدا، قد يبدوا عليه بعد ملامح الثورة والاضطراب عن تحرك الزجاج ولكن عند وضعها على سطح ثابت لن تلاحظ الفرق بين زجاجة ماء عادية وزجاجة محبوس بداخلها البحر."
الطفلة: "والاحتمال الاخر؟"
هو: "الاحتمال الاخر هو أن يضيق البحر بالزجاجة ويحطمها إلى قطع صغيرة ويظل كما هو بكامل أمواجه ورماله وسماءه يعلو ويهبط ويحدث القمر والنجوم بالليل ويلاعب الرياح والعواصف من وقت لآخر."
صمت كلاهما قليلا وتركا البحر يكمل الحوار بصوت الموج والرياح وكأنها يعلقان على كلامه. ثم سألها:
"أنت ، أي الاحتمالين تفضلين؟"
الطفلة: "الاحتمال الثاني.. لي وللبحر."  
هو: "حسنا حسنا .. أظنك أثبت رأيك ... هيا بعنا نعود للمنزل."

ابتسمت وهي تقول: "ليس الآن يا أبي.. ليس قبل أن أحتفل مع البحر بحريتنا."

Sunday, October 23, 2016

إليك .. مرة أخرى

" عزيزتي ..
كيف حالك؟ أتمنى أن تكوني بخير ومازالت ابتسامتك تطير كل يوم كالعصافير في السماء. مازالت منتظر ردك على رسالتي السابقة، معنى ذلك أنك مدينة لي برسالتين وليست واحدة.
بالرغم من أن اليوم هو يوم الثلاثاء، وهو منتصف الأسبوع، إلا أني قررت أنه سيكون يوم إجازتي. فإجازة نهاية الأسبوع تلك صارت كئيبة ، فكل شيء صار هادئ أكثر من اللازم لذلك أذهب للصحيفة وأنشغل بالعمل. أما اليوم مثلا فقد استيقظت مبكرا ككل يوم وذهبت إلى المقهى وجلست في نفس الزاوية وطلبت القهوة الساخنة باللبن – بدون أن يصحح أحد نطقي لها. أعلم بانك ستقولين أني أقول ما سأقوله الآن مدعيا حتى تتأثري بموقفي وتفكري في عودة سريعة ربما ولكنها الحقيقية، فعندما أجلس في المقهى يكون كرسيك فراغا بالطبع والجهة التي كنت تجلسين فيها صارت باردة، يأتي منها هواء وكأنه آت من القارة المتجمدة مباشرة لا أعلم كيف كنت تحجبيه عني بالرغم من أنك تكرهين البرد. انا فقط أكتب لك الحقائق كاملة بدون زيادة أو نقصان أو أي تغيير. نعود إلى يومي،  أُخرِج صحيفة اليوم وأمر سريعا على صفحاتها وبعد ذلك أقرأ فصلا من رواية ثم أتناسى وأعود إلى كتابة مقالة قد بدأتها ولكني أتوقف سريعا لأن اليوم هو إجازتي وعلي أن أحصل عليها كاملة.
لا أعلم إني أخبرتك بذلك أم لا؟ ولكن كوب القهوة الخاص بك مازال كما تركتيه، فالقاعدة تقول أن كل منا ينظف وراءه في المنزل. ولأول مرة تكون هذه القاعدة في صالحي فكل صباح أرى الكوب الخاص بك فأشعر بوجودك في المكان. خصوصا وأن أحمر الشفاه الخاص بك دائما ما يترك أثر على الكوب ، لم أخبرك ذلك من قبل ولكني دائما ما أكون سعيد بذلك وأشعر بأن الكوب أكتسب شرف من نوع خاص.
أتدرين؟ الحنين هو من أسوأ أنواع الشعور. اتخيل الآن شعور السمك عندما يخرج من الماء ويُطلب منه أن يعيش على الأرض كالبشر. يظل يشتاق للبحر برائحته وموجه ورماله، يعيش طوال حياته مفتقدا وطنه، يصبح التنفس صعبا جدا وثقيلا، وتبدوا الحياة في معظم الوقت كصخرة ثقيلة وضعت على السمكة الصغيرة. كلما رأت البحر ولو من بعيد تشعر بألم شديد يعقبه شعور غامض وكأن الموج يتحرك بداخل تلك السمكة الصغيرة ، يعلو ويهبط كمان اعتادت ان يكون البحر.
أين البحر؟ اين الموج؟
فقط تراب وتراب وتراب. "
طوى الورقة ببطء وأعادها إلى جيب قميصه وأخرج نبتة صبار صغيرة من حقيبة كانت بجانبه وزرعاها في الأرض بجانب أخريات تبدوا أكبر منها. وقبل أن يرفع رأسه فأجأته بعض الدموع، حاول عقله أن يخبره بأنها يجب ألا ترى دموعه ولكن قلبه تمنى بقدر ما تسع الأرض للأماني، تمنى أن تراها.
خرج من هناك دون أن يمسح دموعه وهو يتمتم، "حتى لقاء آخر يا عزيزتي .. حتى لقاء آخر"


Thursday, October 20, 2016

قارب وليلة

سمعت صوت غريب صادر من قاع القارب، حاولت أن تنظر ولكن لا شيء يظهر في تلك العتمة. حركت يديها ببطء فكتشفت أن هناك ثقب صغير في القارب يدخل منه الماء. أنه الغرق لا محالة ...
شعرت بهبوط كبير وكأن جسدها يهوي إلى قاع بئر كبير وأن ثقل العالم كله مثبت على صدرها في نقطة فوق قلبها مباشرة. تسارعت أسئلة عديدة داخل رأسها، وأنتهى صراع الأفكار والأسئلة بداخل عقلها باستنتاج وحيد.. الاستسلام ، لا مفر من الغرق في قاع ذلك البحر المظلم الذي ليس له بداية أو نهاية، فقط أمواج تعلو وتهبط في هدوء وبصوت ألفته أذنها.
فجأة لمع ضوء في السماء وكأن النجوم والقمر رموا سماء الأرض بصخرة مضيئة. تفاجئت بشيء  على الجهة الأخرة.. كان هناك طفل ينظر إليها بعنين لامعتين مملوءة ببراءة وكأنها سماء صافية جاءت بعيد يوم مطير. لم يكن أي طفل، بل طفلها!
كيف لأم أن تنسى أبنها، هكذا سئلت نفسها. كيف لها أن تنسى تلك اللحظة، لحظة ولادة أبنها عندما كانت لازت على الشاطئ تراقب البحر في صمت وترقب. منذ تلك الليلة التي ولد فيها وهي في البحر مع الموج تعلو وتهبط والصغير بين يديها تحمله فتشعر الدفء، تتمسك به جيدا فيضيئ البحر والسماء المظلمة، ماذا حدث؟
لعلها العاصفة التي أتت خلف العاصفة، لعلها الجزر الصغيرة التي علق بها القارب ، أو لعله الملاح صديقها الذي فقدته ، الملاح الذي علمها السماء والنجوم وعملها أن تمسك صغيرها دون أن تلفته ولكن في ليلة من تلك الليالي فقدته وهي عالقة في أحد تلك الجزر المظلمة. هو لم يعرف ذلك ، لم يعرف أنها راقبته وهو ينظر إلى السماء والنجوم وراقبته وهو يحمل صغيرها وتعلمت كيف لها أن تدخل العاصفة دون أن تغرق. وفي النهاية فقدته ...

تحركت ببطء في القارب المهتز من قوة العاصفة والماء المتسرب، تحركت وقلبها يهتز من شدة العتمة والظلام وهي تبحث عن قمر أو نجمة ضلت طريقها في السماء مثلها تماما. أمسكت بصغيرها فتذكرت كل شيء، تذكرت كيف ان ذلك الطفل كان بحجم كفها الصغير وأنه كبر كل يوم شبرا وكان يكبر مع كل ليلة وكل عاصفة ، وكأنه شجرة تشتد مع الزمن. شعرت بدفء يتسرب بداخلها ولمعت بعض النجوم وحتى القمر ظهر. وضعت يدها بقوة على ثقب القارب وكأنها تخبر البحر بانه ليس اليوم .. لعلها قد تغرق ولكن ليس اليوم. أمسكت بصغيرها وراقبت السماء تماما كما كانت تفعل مع الملاح صديقها منتظرة يوما أن تصل .. مازالت في البحر بين الموج والعواصف، أحيانا تنسى صغيرها ولكنه يعود ليذكرها من جديد كيف كل شيء بدأ .. 

Tuesday, September 20, 2016

ياريت نرجع صغيرين تاني

كنت أسير في شوارع المحروسة "مصر" ورأيت طلبة المدارس وهم يعودون إلى دراستهم –قبل بدأ الدارسة بشهر من أجل تلبية متطلبات المدرسين بالتأكيد أو كما يقال من أجل الدروس – يسيرون وهم يحملون الكتب وهناك من يقوم بالمراجعة النهاية أو كتابة الواجب في الشارع. لجزء من الثانية تساءلت لو أنني أريد أن أعود طالب من الجديد .. في البداية تفاجأت أني حصلت على شهادة جامعية من الأساس فطوال عمري كنت أظن بأن الثانوية العامة هي شيء مستحيل ومستبعد يخيفون به الأطفال الصغار تماما ك"أمنا الغولة" و "أبو رجل مسلوخة" ولكني أتفاجأ بأني انتهيت من مرحلة الثانوية العامة –والحمد لله- بل وحصلت على شهادة جامعية أيضا! متى وكيف و"نعم؟!" كلها أسئلة كانت تدور في رأسي وانتهت بفكرة حاولت التسلل إلى عقلي ..."هل أريد أعود طالبا من جديد؟" ولكن بعد جزء صغير من الثانية جاءت "لأا طبعا" قاطعة... لذلك عذرا للعنوان المضلل ولكن أحيانا الغاية تبرر الوسيلة فإن كنت جئت من أجل الحنين إلى الماضي أو غضبا من العنوان المستفز ففحالتين "جررت رجلك" وهو شيء أحيانا يريده الكاتب.  
لا أظن بأن أحد يفكر جيدا وهو يتمنى أن نعود صغار فالحقيقة هي أن كما يقول محمود درويش:
"الحنين استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية:
 الفصل الأول المرتجل بكفاءة البديهة
هكذا يولد الحنين من كل حادئة جميلة
ولا يولد من جرح
فليس الحنين ذكرى
بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة
الحنين انتقائي كبستاني ماهر
وهو تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب"
لا أظن حقا بان طفولتنا أو الماضي عامة كان بهذا الروعة والجمال الذي نظنه دائما ، ولكن دائما ما كان هناك أزمات ومشاكل حتى ولو تبدو تافهة وصغيرة الآن ولكن في السابق كانت تبدو وكأنها في وزن العالم كله تماما كما نرى أزماتنا الآن وبعد أعوام قليلة ستبدو تافهة.
الأزمة ليست في أن الطفولة كانت أجمل و أن الحياة من قرون كانت ألطف. الأزمة حقيقية في اختياراتنا فلعل الشيء الوحيد الذي تغير حقا هو مدى أيماننا بأحلامنا وأمنياتنا التي لم يكن لها حدود. ولكن مع الوقت نبدأ في عمل تنازلات ونرضى بالأقل وبعد ذلك نتفاجأ بالنتائج.
لا أظن بأني سأكون سعيدا بأن أعود طفل يحلم ويحلم فقط ، يحلم ويفكر كيف انه في يوم سيفعل الكثير، الأفضل أن أحاول أن أعيش هذه الأحلام حتى ولو كان الواقع محبط وليس كما توقعته كطفل ولكن على الأقل هناك فرصة أن ربما واحدة من هذه المحاولات ستنجح ولكن ما الفائدة في أن أعود طفل إذا؟ سيكون هروب أكثر من أي شيء آخر.

دائما ستكون هناك معركة مع الوقت ، فالحقيقة هي أن الوقت لا يتوقف ولا يمل ولا يصيبه الإحباط ولا يتعب ولكن نحن نفعل ذلك وعندها يتمكن منا حقا. المشكلة ليست في العمر كرقم ولكن المشكلة حقا فيما نفعله بهذا العمر. 
ففي النهاية أفضل أن أنظر إلى حياتي وأرى أيام صعبة كثيرة أوصلتني إلى ما انا عليه أفضل من أن أكون طفل سعيد بلا سبب ... 

Saturday, September 10, 2016

كلمات


الكلمات تضغط وكأنها ماء مطر ينحدر من فوق جبل بقوة لا يمكن إيقافها، لا صخر ولا الحفر.
من قبل كان لا يحتاج كلماته فللمرة الأولى منذ وقت طويل كانت العاصفة توقفت والسفن بدأت رحلة هادئة نوعا ما إلى الجزيرة البعيدة.
تغير الأمر وعادت العاصفة ولكن الكلمات تضعف السفينة تجعلها مكشوفة، الكلمات تخبر الريح أين نقاط الضعف وأين الضلوع المكسورة من قلق الليل. الكلمات تخبر كل شيء ولا تبقى أي سر.
يحاول أن يسيطر على كلماته كما يوجه الملاح شراع سفينته. يحاول أن يعاند الرياح ويمنع الكلمات من أن تفضحه.
ولكن الليل يكون بطيء والماء ينحدر بقوة أكثر والكلمات تضغط أكثر فأكثر.
يخرج ورقة وقلم ، هل يحكي للقمر ما حدث؟ هل يكتب يومياته لعل العاصفة تأخذها بعيدا لنجمة باتت بعيدة؟
في النهاية يترك الورقة بيضاء فلا القمر صار قريبا ولا العاصفة توصل رسالته.
شيء ما مازال يلمع في السماء ، هكذا يخبر نفسه .. بالرغم من خلو السماء من أي أثر للنجمة إلا أنه يشعر بها بالقرب منه ، يشعر بها في وسط العاصفة، يشعر بأشاراتها بأن الطريق من هنا .. لا تقلق يوما ستصل.
يحاول أن يقنع نفسه بأن العاصفة ستنتهي قريبا أو قريبا جدا بشروق شمس يوم جديد أو تتأخر قليلا حتى غروب ، يحاول ويحاول ولكنه قبله يخبره بالحقيقة التي يحاول أنكارها بأن العاصفة مازالت في البداية وأن السماء ستظل بدون نجمتها وسيظل القمر بعيدا بعيدا ولكنه لا يكذبه في أمر واحد وهو أن القلب كذلك يشعر بالنجمة مختبئة في مكان ما بداخله تترك أثراها الصغيرة –التي صارت مؤملة بعد الشيء- مع كل حركة يتحركها.
تسأل كم يوم كم مر؟ هكذا سأله القلب، وكانت الإجابة بأن العدد لا يبدوا واضحة شيئا ما بين الأربعين والخميس عاما، هكذا تقاس الليالي الطويلة بالأعوام وليس الأيام والساعات.
ها قد فعلها وخرجت كلماته في وسط العاصفة ، خرجت تائهة كمركب صغيرة للصيد وجدت نفسها في وسط عاصفة في محيط كبير ، والنجمة شمال تبدو بعيدة، بل أبعد ما يكون ...


Friday, September 2, 2016

عطل مفاجئ


خرجت من عملها وهي تشعر بتعب كبير وتريد فقط أن تكون على سريرها لا تشعر بشيء سوى برودة التكييف وربما تشاهد فيلم قبل النوم. ولكن عليها أن تقطع مسافة كبيرة لتصل إلى المنزل ، ليس هذا فقط بل عليها أن تقود سيارتها هذه المسافة وهذا يعني عذاب ليس كأي عذاب لساعة كاملة على الأقل.
بمجرد أن خرجت من باب العمارة قابلها "السايس" بابتسامة تشبه ابتسامة شخص جائع على وشك أن يسرق طعام ساخن وقال بصوت متحمس:
"الف مبروك يا أستاذة العربية الجديدة، والله فرحتلك ! هترحمك من قرف التاكسي .. دول ناس حرامية أصلا!"
لم تجيبه ولم تريد أن تكمل الحديث فردت عليه بنظرة شخص شبعان تماما ورأى طعام يكره. ولكنه أكمل حديثه على أي حال قائلا:
"أخيرا يا أستاذة هطلعك من الجراج بنفسي .. ده انا هستنى سيادتك كل يوم!" وتبع كلامه بابتسامة بلهاء تجعل أي شخص سعيد يشعر بقليل من التعاسة أن هذه التعابير هي ابتسامة.
لم ترد عليه ولا تنظر إليه هذه المرة بل حدثت نفسها وقالت :" لوعايز تعمل خير فعلا تيجي تسوق انت في شوارع المخروبة دي..."
وقف هو منتظر الأستاذة وبدأ في عمل إشارات وكأنه يساعد طائرة ضخمة على الهبوط في جو غائم.
كانت تحاول أن تستجمع قوتها وتشجع نفسها على أنها تستطيع أن تنهي هذه الرحلة بسلام. تركته ومشت بالسيارة ببطيء وتخبط وعلى وجهه علامات الغضب والحيرة فهي لم تعطيه "البقشيش" المطلوب بعد كل هذا الكلام المعسول.
توقفت عند أول كشك لكي تشتري مشروب بارد وقطعة شكولاتة من أجل الطريق الطويل. وعندما همت بالتحرك حدثت ما كانت تخافه بل ما كانت تعتبره أسوا كابوس لها، فبعد أن دخلت السيارة ووضعت المفتاح في مكانة وحركته حركة واحدة وداست على الدواسة كما تعلمت ، لم تتحرك السيارة ولو أنشا واحدا!
أخرجت صرخة عالية ، ولكنها ليست عالية كفاية ليسمعها أحد فنوافذ السيارة مغلقة والطريق شبه صحراوي وهو ما يزيد الطين بلة. وضعت رأسها داخل حقيبتها لدقائق لتتأكد من أنها لو بكت لن يراها أحد. بعد ذلك حاولت بشتى الطرق أن تحرك السيارة ، تأكدت من أنها على وضع الحركة والفرامل ليست مشدودة ولا يبدوا على السيارة أي مشاكل ليس هناك دخان ولا رائحة ولا شيء. نزلت من السيارة لتتأكد من شيء لم تعمله وبالطبع لم ترى شيء غير مألوف على الأقل ليس بالنسبة ليها.
وقفت لدقائق تحدق بالسماء وتتساءل من أعماقها "ليه؟" ، "ليه يحصلي كده! انا عملت ايه وحش في حياتي!" ، بدأت وقفتها تثير الأنظار وبالطبع فتاة وسيارة يعني عدد لا نهائي من النكات السخيفة وكان هذا ما يجعلها تشعر بالضيق أكثر حتى من النظرات فقط كان واضح ما يريد أن يقوله أي مار. حاولت أن تعود من أجل محاولة أخيرة يائسة ولكن لا فائدة. اقتربت سيارة بها شاب سألها:
"انت محتاجة أي مساعدة؟ أغيرك الاستبن أو حاجة؟"
فردت "لا لا شكرا، انا مستنية بس جوزي عشان بنمشي سوا ... شكرا"
غادر الشاب بهدوء ولو أنه لم يصدق الرواية الخاصة بها. وقالت هي لنفسها:" اكيد مش هتصدقني يعني ، هو انا لو كنت متجوزة ، كنت هسيبه في حاله واتبهدل كده ، اكيد كان هيوصلني كل يوم ! بدل البهدلة دي.."
كان الوقت يمر بطيئا جدا ومضى أكثر من نصف ساعة على توقفها. عندها أخرجت تليفونها المحمول لكي تحاول أن تبحث عن مشكلتها أو مشكلة مشابهة. صمتت دقيقة وكانت تفكر وتسأل نفسها : "هو ليه مفيش صوت طالع من العربية؟ مش المفروض الموتور داير!" بعد ذلك صمتت تماما وابتلعت صدمتها ووجها بدأ في الاحمرار حتى أصبح يشبه الطماطم الطازجة وحركت يدها ببطيء شديد وحركت المفتاح حركة زائدة لكي يدور الموتور...
سارت طول الطريق في صمت تام وتتخفى من الناس وكأنها قامت بعمل مصيبة ما. وعندما عادت لمنزلها سألتها أمها بقلق:
"ايه الحصل يا بنتي؟ ايه أخرك كده !"

فردت : "لا مفيش يا ماما.. كان في سواق غبي على الطريق بس.." وابتسمت ودخلت غرفتها لا تعرف هل تبكي أم تضحك. 

Thursday, September 1, 2016

الضفة الأخرى 2






أستقيظ من نومه فجأة ليجد بقايا قاربه بجانبه والرمال تحيط به من كل مكان. كانت الرمال تمتد بلا نهاية تعلو وتهبط، فقط رمال رمال والسماء تبدو رمادية اللون والضوء الشمس باهت. كانت يمكنه أن يرى أثار أقدام تظهر وتختفي في الرمال ويسمع همس وأحيانا يلمح أشباح تتحرك. ظل ينادي وينادي بصوت عالي ولكن لا يوجد أي استجابة. ظل هكذا لوقت طويل ولكنه تفاجئ بأن الرمال أصبحت تحيط به أكثر وكأنها تريد أن تجعله جزء منها. تذكر بأنه كانت في منتصف رحلته وبدأ يستعيد رائحة البحر والشعور الرياح القوية وهي تمر بين ذراعيه والأمواج التي تسافر معه بدأ يستعيد كل شيء ولكن فجأة تظهر عاصفة رملية تعيده إلى تلك الصحراء التي ليس لها نهاية.
لم يدري كم ساعة قد مرت، بل لم يعد يدري أكانت ساعات أم أيام أم شهور أو حتى أعوام ، لا يهم مقدار الوقت الذي مضى ولكن الأثر الذي تركه هو الباقي. أثر الرمال التي ليس لها بداية ونهاية، رمال تجعله ينسى انه على جزيرة وينسى البحر بأمواجه وكل ما تركه فيه. كانت نهاية رحلة ونهاية حلم الضفة الأخرى ينتهي بين حبات تلك الرمال الحارقة التي لا تترك فيه سوى الندوب فقبل أن يختفى الجرح تسارع الرمال بعمل غيره وكل منها يترك أثره في النهاية حتى لو رأى انعكاسه في عين طائر حظه العاثر أسقطه في الرمال لم يتعرف على نفسه.
كان عادة يقضي ليله مختبئا في كهف كئيب لا يدخله الضوء منتظر النهار ليبحث عما يأكله ويعود لكهفه منتظرا اللا شيء. فأنتهى الأمر ونسى قريته ونسي ذلك الطفل الذي كان يخاف البحر ولكنه رغم كل شيء خرج ونسى الطيور والموج والسماء والقمر. حتى تلك الليلة التي لم يستطع أن ينم فيها وكان يفكر في شيء لا يدري ما هو فقط يشعر بعقله يعمل ، حتى سمع ذلك الصوت ... كان صوت طائر ولكنه مختلف عن كل صوت يسمعه، صوته أعاده ازمان وأزمان صوت يجعله يشعر وكأنه في وسط البحر وبل في أعلى موجة يحاربها كما أعتاد. لم يكن صوت طائر مكسور ويائس كما أعتاد أن يسمع في تلك الصحراء الكئيبة. ولكنه صوت طائر فخور بنفسه ، طائر يعرف البحر والسماء جيدا ولم يترك نفسه للرمال حرقه. خرج ركضا لكي يبحث عن مصدر ذلك الصوت ويرى الطائر بعينيه ولكنه لم يجد شيء. ظل يركض ويركض وهو ناظر للأعلى وعينيه لا تغادر السماء وكأنه مجنون ولم يشعر بنفسه وهو يتعثر في صخرة كبيرة ويسقط على الأرض. أعتدل في جلسته ليجد نفسه يواجه السماء..
كان منظر وكأنه يراه لأول مرة. كانت النجوم والقمر ويشكلون أجمل لوحة رآها في حياته. كيف لم يره كل ترك المدة؟ كان صديقه هناك في سماء يشاهد بهدوء وجمال كعادته. ظل يتأمل في المنظر وبدأ الصوت يعلو من جديد وهبت رياح خفيفة من الشمال كانت معبئة برائحة البحر .. البحر! وكأنه يتذكر صديق قديم ، أتكأ على يديه وقام ببطء، كانت الرمال لا تزال ساخنة ولكن لا بأس.. لا بأس في بعض الندوب الآن، فالطريق مازال طويلا ولكنه يدري أنه في يوم سيصل. سيعود للبحر ويركب الأمواج وسيصل للضفة الأخرى. الرمال كثيرة وحارقة ولكن البحر يستحق والقمر مازال موجودا ورغم مرور الأعوام مازال الطفل طفلا يخاف البحر ولكنه يعشقه...  

ملاحظة: كنت أظن بأني نشرت هذه القصة بالفعل وعدت لأبحث عنها قبل أن أكتب الجزء الثالث منها فقط لأجد أني بدأن في كتابتها منذ عام ونصف تقريبا ولم أنهيها وأني كنت كتبت نفس الأحداث تقريبا التي كنت أنوي كتابتها الآن...  


Saturday, August 27, 2016

شيء ما


"ما هذا؟ يبدو أن الطريق طويلا حقا، لم يكن يخدعني إذا عندما كان يشتكي من المشي وأن الطريق طويلا...
لماذا لم ألاحظ هذا الأمر من قبل؟"
كانت تقول لنفسها ذلك وهي تمشي مسرعة بمحاذاة أسوار المباني التي تطل على النيل والأمن يحيط بها ولكنها كانت لا تبالي بهم ، كانت تسترجع الذكريات وهي تسير وتنتظر أن تسقط عيناها على النيل لعله يخبرها بشيء ما تبحث عنه. كانت الوقت تأخر ولكن لا بأس فالمكان الذي تبحث عنه في الجهة الأخرى من الشارع ، ستسير مسرعة كما هي وتتذكر يوما آخرا أو أثنين وتخبر النيل بسرا أيضا أو أثنين وبالأحرى هو يعرفهم وستمر من أمام البوابة الحديدية السوداء وتنظر إليها وتبتسم فالبوابة تراه يوميا وإن رأت البوابة هي فإلى حدما قد رأته واقتربت منه.
أخيرا وصلت إلى المكان المطلوب، وجلست بالخارج تحجج بأنها تريد أن تكون بالقرب من النيل ولكن في الحقيقة تريد أن تبحث وجوه المارة لعلها تراه ولكنها تعرف تمام العلم أنه رحل وأنه لم يأتي هنا فاليوم يوم عطلة. أخرت كتابها بهدوء بعد أن طلبت قهوتها. غاصت بين السطور والشخصيات ، شعرت بألمهم وجرحهم وفرحهم وقلقهم ، كل شيء وكأنها هي الأم والأخت والزوج والأب ، لا تعلم هل الكتابة بهذه البراعة أم أنه شيء ما مختلف. تذوقت القهوة فشعرت أن بها شيء غريب ولكنها اكملتها لانشغالها بالقراءة. انتهت من أكثر من نصف الكتاب في هذه الجلسة وجاءها النادل قبل أن تمشي يسألها بابتسامة كيف كانت القهوة فجابته بحدة:
"كان طعمها غريب"
النادل:" ولكن يا سيدي هذه نفس القهوة التي تشربينها منذ أعوام. أنا اعددتها بنفسي."
هي: "لا أدري .. قد أكون أكثر السكر ."
النادل: "نعم ممكن .. ولكنك كل مرة كنت تأتين مع السيد الذي لا أتذكر أسمه." ثم قال باسما "لعله هو السبب"
قالت وهي تبتسم من قبلها وكأنها طفلة وجدت لعبة جديدة: " هل أمري مكشوف إلى هذا الحد؟ نعم .. لعله هو ذلك الشيء ولكن من الأفضل أن نخفي الأمر ولنقول بأني أكثر السكر."
النادل: "حسنا يا سيدتي .. هو السكر إذا."

  

Thursday, August 4, 2016

لو كنت طائرا

لو كنت طائرا ... 
لتركت عالم البشر لبحثت عن غابة صغيرة أو كبيرة لا يهم ، المهم أن تخلوا من البشر ويحفها من الشمال بحر واسع أو محيط ممتد ، وكل الاتجاهات شجر ونخل ... لا فاصل بين السماء والشجر سوا البحر وأمواجه ... 
لبقيت كل ليلة على شاطئ البحر أسمع أسرار أمواجه وهي تخبرها للشجر.. 


ولو أرغمت على الحياة بين البشر كطائر .. لقضيت حياتي أنقل رسالات المسافرين ، أنقلها كاملة بما فيها من دموع ودقات قلب سريعة أو حتى متقطعة ونظرات للفراغ متأملة الللاشيء منتظرة المحب يعود والوطن يظهر من جديد، لسافرت آلالاف الأميال, بجناحين متعبين فقط لأنقل ستة حروف فقط .. ستة حروف .. " أ" "ف" "ت" "ق" "د" "ك" .. لعل المسافر يصبر على غربته ولعل المنتظر يجد ما يؤنسه. 
.. لقضيت ساعة من كل مساء أمام نافذة السيدة العجوز لتحكي لي أن أبنها الذي سافر ليدرس ونجح وحفيدها الذي يشبه بنتها تماما وكيف أنها لم تره منذ كان رضيعا ولكنها لو رأته الساعة لعرفته وسط ألف.. ستحكي لي كيف كانت تجعد شعرها في الليل على ضوء شمعة منتظرة الصباح يأتي بأمل جديد .. ستحكي الكثير من القصص ، أكثر مما يتحمله أي انسان لذلك من الجيد أن تكون طائرا 


Monday, June 13, 2016

طريق

عاد إلى نفس المكان الذي بدأ منه كل شيء ، تطارده بعض الذكريات والأحلام والكثير من الأسئلة المؤلمة التي يهرب من كثير منها، تظهر له بعض النجوم والأقمار اللامعة تطمئنه بأنه مازال على وعده وأن كل ما في الأمر أنه دخل منعطف جديد وقطع مسافة كبيرة من الطريق وتغير الأمر ولم يعد هناك طريق للعودة... 
تذكر تلك الليلة أو الليالي لا يدرى ، كان كل شيء مازال أخضرا وكان القلب مازال أبيض والعقل مازال مشتعلا بالأفكار والاحلام ، كان يرضى بأي شيء وينتظر كل شيء.. لم يدخل أي من معاركه بعد ، كان مازال يجلس على الشاطئ أو أبعد من الشاطئ .. يجلس ناظر للسماء متسائل عما سيحدث في المستقبل؟ كيف لطفل صغير أن يحمل حلم كبير؟ كان يتساءل لو يجب عليه أن يرضى بالواقع أن يستسلم لأشباح العالم؟ أن يحفظ ويحفظ ويحفظ لمدة عامين كاملين من أجل ورقة تؤهله للدخول لمكان لآخر لمدة خمسة أعوام من أجل ورقة أخرى؟! كان الأمر يبدوا وكأنه أسوا كابوس وكأن العالم يريد أن يقتل الحلم والأمل يقتل لمعان عينيه ، جلس في نفس البقعة التي جلس فيها الآن وتذكر وعده للقمر منذ طفولته وقام بعمل معاهدة جديدة سيرضى بالواقع ويحفظ ما يريدون حفظه ولكنه سيتعلم المقاومة ، سيقاوم ويطارد أحلامه ، كان بإمكانه أن يرى الطريق ممتد ولكن هناك حائظ هائل لا بداية ولا نهاية له يسد أمامه الطريق ولكنه لم يشعر بالقلق من هذا الحائظ كان يدري أن الأمر بسيط وقت وسيمر وسيعبر وسيجد البحر خلف الشاطئ بموجه ورماله يأخذه إلى أحلامه... 
مرت الليالي تباعا تباعا ، الحائط اختفى ، تغير الأمر ، أصبح الضباب يملأ الطريق وتشعب لمئات من الطرق ، اختفت رائحة البحر والقمر لم يعد يظهر كل ليلة كما أعتاد ، اصبحت الحياة مخيفة ، لم يعد الوقت صديق له كما أعتاد بل أصبح عدو يقف فوق كتفه ويضحك كلما رآه يسقط ، يضحك كلما رآه يتعثر ويبكي ، يضحك ويضحك ويمضي في طريقه هازئا منه ، يحاول دائما أن يعود لوعوده ، يعود للمقاومة التي تعلمها ولكن الأمر صار صعبا وكأنه مقاتل نسي حمل السيف بعد سنوات طويلة من الراحة... ولكنه أيضا أكتشف شيء جديد ، أكتشف أن الحمل الثقيل من الممكن أن يحمله أثنان وأن القارب من الممكن أن يسيره أثنان ، فجأة أكتشفها تجلس بجانبه على كرسي القطار وهو يعبر الطريق ، كيف ومتى ومن أين؟ أسئلة كثيرة تدوب اجابتها في عينيها ، لم يعرف غير الوحدة ولم يألف غير صوت الصمت الممزوج بأفكاره هكذا يقول لنفسه أن يهرب من القطار ويختفي الظلام ولكنه قبل أن ينقفذ ينظر إلى القمر فيراها ويرى أحلامه ويرى البحر ورائحته ويرى الرمال والقمر والنجوم ... تماما كتلك الليلة التي بدأ منها كل شيء ... فيتمسك بالمقعد ويدري بأن من هذه اللحظة لم يعد وحيدا في تلك الرحلة وصار من يشاركه قطاره الليلي ... ولكن أحيانا احيانا تهرب منه بين عربات القطار ، أحيانا تأخذ احلامه وقمره ونجومه وبحره وتهرب ومع كل هروب تترك علامة واضحة على قلبه لا تتحرك ... 
يحاول أن يوقف كل شيء حوله .. كل شيء .. يتذكر كيف بدأ .. يهدأ .. يجدد وعوده .. يفكر أن بأن المعارك تجدد وتكبر كما يكبر هو وأن القوي هو من يستمر والضعيف هو من يستسلم ..  ينظر خلفه يرى طريق طويييل قد قطعه يرى جبال وبحار قد قطعها وينظر بجانبه فيراها ،، فيدرك أن عليه أن يهدأ ويتفهم معركته الجديدة ويعود لخطته الأولى وعده مع القمر والمقاومة .... 

Friday, June 10, 2016

أماكن


عندما كنا صغارا كان المكان الأكبر في حياتنا هو البيت. كان البيت هو "المكان" كان يبدو وكأنه قارة بأكملها تضم كل أشكال الحياة وكل بداية أو نهاية تبدا من نقطة ما في ذلك المكان. البيت في تلك المرحلة هو كل شيء وبعد ذلك نكبر قليلا فنضطر لنسافر أو نبتعد حتى فترة قليلة لمدة أيام أو أسابيع أو حتى شهور قليلة لنتكشف مدى تعلقنا بهذا المكان وأن الحياة بدونه مستحيلة وكأنه سمكة خرجت من الماء أو انسان تم نفيه خارج الغلاف الجوي ويحاول جاهدا أن يعود في نفس اللحظة حتى لو يعني ذلك أن يركب قطار في منتصف الليل أو حتى يسافر على قدميه فالمهم هو الوصول للمكان الأهم وهو البيت.

في مرحلة ما يضطر الطفل أن يكبر ومع ذلك الأمر يكتشف أن هناك أماكن جديدة ظهرت في حياته ليست بالطبع بأهمية المكان الأول ولكنها أصبحت جزء من حياته. بعد ذلك يضطر الانسان للسفر أن يرحل ويبتعد قد يكون البعد ملموس وحقيقي بالمسافات وقد يكون بعد في أن يظل الانسان يدور ويدور على أماكن أخرى. ولكن في النهاية وبعد أعوام يكتشف بأن الفكرة المكان الأوحد تغيرت فكل مكان صار يحمل جزء ما ، كل ما يحمل ذكرى وصورة قد تكون اختفت او تغيرت أو حتى بقية كما هي.  يتحول المكان إلى الأول من قارة كاملة إلى جزيرة في وسط محيط ، جزيرة يفر إليها الإنسان من علو الأمواج والمحيط الذي لا يهدأ. جزيرة في وسط الريح والأعاصير نفر منها في كهف ربما ونرحل في قارب صغير لنجد كل الأماكن تحولت إلى جزر أصغر. نكتشف بأن جزء من الضريبة الزمن هو التشتت وكأن في جزء ما من عمر الإنسان جزء من قلبه كان من الزجاج وتكسر ويظل بقية حياته يحاول أن يجمع قطعة من كل مكان ويضعها في مكانها ولكن مهما جمع تبقى قطع ناقصة ويبقى الزجاج مشروخ. 

Sunday, April 3, 2016

قصة ليلى 6

-اتدرين يا ليلى... في البداية كنت أظن أني آتي هنا كل ليلة في مهمة رسمية، ولكن بدأت أشعر بأن هذا الحكي يجعلني أشعر أني مازالت حيا 
-ماذا تعني؟ لا تحاول أن تكون غامضا من فضلك 
-لا يهم ، لا يهم ، قصة اليوم بها فتاة مثلك 
-مثلي كيف؟
-مثلك.. فتاة ، شابة ، ذكية ، وجميلة 
-ماهذا الاطراء، هل هناك عصفور جائع أم ماذا؟
-"كانت أنتهت لتوها من دراستها الجامعية، كانت تخصصت في دراسة التاريخ وقررت أنها يجب أن ترى جزء مما درسته وتزور وتكتشف العالم، كانت تريد أن ترى كل شيء وتكتشف أشياء جديدة غامضة. ولكن الحياة كانت قاسية جدا معها، أهلها رفضوا الفكرة وكل أصدقائها أبتعدوا هنا لأنها بدأت لهم وكانها مجنونة. شعرت وكأنها على وشك الاستسلام فكل شيء وكل شخص ضدها وكأنها تحاول أن تعوم عكس تيار البحر. ِولكنها تخيلت نفسها ترضى بما يراه الآخرين تخيلت الأعوام تمر ما بين جملة "هانت" و"كلها سنتين" إلى أن تموت احلامها جميعا ويموت كل شيء بداخلها وتصبح نسخة مشهوة لمجتمع مشهوه. كانت تدري بأن العالم أصبح مكان صعب الحياة عليه بالرغم من أننا نزعم بأننا الكوكب الوحيد الذي به حياة ولكننا كل يوم نجاهد من أجل أن ترى تلك الحياة. ولذلك قررت بأنها لن تستسلم اليوم ولا أي يوم ، ستقوم برحلتها في العالم لكي تكتشف وتنشر الحياة مهما حدث. كانت رحلتها غالية التكاليف وكانت كل شيء يقف أمامها لذلك قررت بأنها كل يوم ستقرأ وتكتب وترسم أن مكان جديد في هذا العالم وتعلق الورقة في غرفتها وتظل تعمل ليل ونهار حتى تستطيع أن تسافر. كانت الغرفة تمتلأ كل يوم بصورة أو قصاصة ورق أو مقالة أو كتابة كل يوم تشعر بأن حلمها يحاصرها فتعمل وتجتهد أكثر حتى تقترب من رحلتها. ظلت طوال خمسة كاملين تعمل كمدرسة أحيانا ومرشدة سياحية أحيانا أخرى ، كانت تنتقل كنسيم عابر يعرف وجهته جيدا ، تنقلت من وظيفة لأخرى وعياناها مثبتة على شيء واحد .. رحلتها. كانت أتمت عاماها الثلاثين عندما شعرت بأنها جاهزة تماما لرحلتها ، اتهمها الجميع بالجنون فهي ولأسباب مختلفة هذه المرة وتأكدت من أنه في كل مرة ستجد الكثير يتهمونها بالجنون لسبب أو لآخر. بدأت رحلتها ومنذ أول يوم عاد قلبها وروحها إلى عمر طفل لم يتم عامه الخامس ، كانت تشعر بساعدة غامرة وتنتظر المجهول ولكنها تعرف أن مهما حدث ستقاتل لأنها أستحقت هذه الرحلة ، فهذه الرحلة هي رحلة حياتها ، وعليها أن تكملها لآخرها... نظرت بجانبها فكان هو جالسا يبدو عليه القلق ..."
-ولكن هذه قصة أخرى
-ماهذا يا عصفور؟ منذ متى وهناك نهايات درامية كهذه النهاية
-علي التغيير وإلا سأكون طعام للأميرة
-أي أميرة ؟!
أبتسم العصفور وقال:
-وداعا أميرة ليلى 
-وداعا يا العصفور مجهول الأسم 
وقالت لنفسها: -- وداعا يا صديقي العزيز 

Wednesday, March 16, 2016

ليلة

دائما ما يشتاق ليلة كان القمر فيها واضحا لا يغطيه أي سحاب ويبدوا أقرب ما يمكن والنجوم تبدوا لامعة وكأنها عيني أم ترى أبنها الذي عاد بعد سنوات السفر الطويل لامعان يصل للقلب قبل أن تراه العين. تلك الليلة التي كانت أسرار الحياة تطير في السماء وتهبط الأرض التي خلت من البشر. ليلة هادئة لا يكون ما يجعل القلب أو العقل او الصدر يضطرب فكل شيء هادئ. كان الوقت يبدوا مختلفا فلم يصبح عدوه بعد بل كانوا أصدقاء يتعاهدوا ويلتقوا على عدهم. كانت الشمس لا تحرق ولا القمر لا يذكره بالغياب والحروف تبدوا مضيئة والاحلام سعيدة. كانت ليلة ما بعدها ليلة ، ليلة يبدأ الزمان فيها وينتهي. ليلة تعرف فيها على الطيران وليس فقط الطيران فوق السحب بل الطيران خلال الزمان. ليلة كان يبدوا فيها كل شيء ممكن. الحزن والشر والضيق أشياء ليس لها أي معنى في ليلة كهذه.
أحيانا يحاول أن يعود لتلك الليلة .. يتساءل لو أنها كانت موجودة من الأساس أو لو أنها ستأتي من جديد ، فالقلب أصبح مثقل والقمر تغير ولمعان النجوم هدأ. ولكن شيء ما يشده نحو تلك الليلة وكأن هناك نجم أبى أن يتركه في العتمة ويرحل ، نجم خفي أخفى نوره عن الجميع وعاد لصديقه يشده نحو ليلته التي يبحث عنها. شيء ما في قلبه يلمع على استحياء بأن الحلم مازال باقي. شيء ما في القاع البئر يناديه بألا يخاف النزول وأن مهما بعد الطريق سيجد الماء في النهاية ، سيجد النجوم مازالت تلمع والقمر كما هو كأجمل وجه رآه ولكن هذه المرة عليه أن يقطع الطريق حتى نهايته. فيتذكر كيف قال أنه سيقطع هذا الطريق إلى آخره ، إلى آخر القلب أقطع هذا الطريق الطويل
دارت بنا الريح دارتْ ، فماذا تقول؟


أقول: سأقطع هذا الطريق الطويل إلى آخري.. وإلى آخره.

Saturday, February 20, 2016

اكتشاف القمر

فجأة لا يدري كيف حدث هذا؟ بعد كل هذه السنين والشهور والليالي .. بعد كل هذا السهر والأحاديث الطويلة والوعود فاجأته حقيقة بسيطة جدا هي أن القمر بعيد جدا ، هو لا ينتمي للأرض ولا للسماء حتى بل يفصل بينهما غلاف جوي يمتد لمسافات طويلة وبعد ذلك السماء ومن ثم فراغ كبير قاتل ، فراغ تتحرك فيه صخور صامته أو كويكبات صغيرة ضلت طريقها أو بقايا قمر صناعي ، فراغ لا ينقل صوت أو حياة ، ولكي يكون على أكثر دقة المسافة بينه وبين القمر تمتد لآلاف الكيلومترات. متى حدث ذلك؟ لا يعلم. لماذا لم يكتشف الأمر من قبل؟ لا يعلم أيضا. بدأ يشك لو ان الكون بالفعل يتمدد إذا فالقمر لعله يبتعد أكثر فأكثر. ولكنه كان يتذكر كيف أن في بعض الليالي كان بيدوا أكبر وكيف أنه كان النور الوحيد في تلك السماء الكئيبة، فجأة يكتشف أنه لا ينتمي لهذه السماء من الأساس! بدأ يتساءل لو أن تلك الرسائل كانت تصله أم أنها كانت تسقط في ذلك الفراغ الرهيب. ظل يسأل نفسه كيف كان يظن بأن القمر ينتمي في مكان ما بين قلبه وعينيه وأنه على ثقة أنه اقرب لقلبه ليكتشف بعد ذلك أنه بعيد ، بعيد أكثر من تأخذه قداماه في هذه الحياة. كانت الدقائق تمر بعد اكتشافه الرهيب والتي تجعله يتساءل لو أن القمر هو الذي يعيش في فراغ قاتل أم هو الذي كذلك.


نظر إلى السماء فوجد ابتسامة القمر تجعله يشعر كمن سافر وترك أهله من أجل حرب لم يدرك حقيقتها، فالابتسامة أجمل ما رآه قلبه في حياته وأشدها قسوة أيضا لأنها بعيدة ، بعيدة جدا، أبعد من امتداد قلبه. ولكنه يحدث القمر على أي حال لعل الحرب تنتهي يوما دون أن تتعمق الجراح أكثر. 

Friday, February 12, 2016

صرخات مكتومة

كان بإمكانه سماع حركة عقارب الساعة
بالرغم من أن الغرفة ليست بها أي ساعات
كان عقرب الثواني يتحرك بطيئا بطيئا
كانت كل حركة كطعنة غادرة
لا ينفجر منها دم
بل صرخات مكتومة
تتوالى الطعنات
ويصرخ قلبه
يتحول من الأحمر إلى الأسود
والثواني مازالت غادرة
يحرك نظره في الغرفة
ولكن الغرفة خاوية
ينظر من الشباك
يبدوا الجميع كالموتى
والسماء مظلمة بلا قمر
والأرض ليست ظاهرة من كثرة الحفر
يشعر بشيء من الضياع
يبحث في أوراقه ، جميع أوراقه
لعله يجد خبر
لعله يجد البر الذي ينجيه من الغرق
ولكن الحبر أختفى
والورق طار مع العواصف الباردة
والصرخات مازالت مكتومة
يبحث عن الباب الغرفة فلا يجده
يبحث عن الشباك فيضل
تعلو الصرخات المكتومة وتهدأ أنفاسه
ينظر في حوله في قلق أو في أمل
ولكن لا شيء ..
تعلو صرخة مدوية

ثم يهدأ للأبد .. 

Friday, January 29, 2016

سور


تحاول أن تفتح عياناها ولكن جفناها يبدوان وكأنهما حجرين هائلين يأبيان أن يتحركا. تفكر في صمت.. منذ متى وهذا السور هنا؟ أنه سور هائل، قالت لنفسها لا يمكن أن يكون هنا منذ أكثر من عشر سنوات وهو نفس عدد سنين عمرها ولكنه يبدوا أقدم من هذا بكثير وكأن عمره بدأ منذ أكثر من مائة ليلة وهو يمتد ويشتد. لم تستطع أن تحدد بالضبط ما إن كان هو حديث أو قديم ولكنها على يقين أنها كثير ما قابلت هذا السور كثير ما وقفت امام دون حراك..
سور هائل من الحديد الصدأ الذي يمكنها أن تشتم رائحته دون أي مقاومة يبدأ من رأسها ليخترق عقلها بنظام معين يسمح للأفكار بأن تخرج ولكن ما إن تخرج تجد السور أمامها فتصدم به وتبدأ الأفكار تخرج وتتسارع وتتصادم فيحدث ما يشبه العاصفة التي تدمر كل شيء وكل فكرة تخرج تزيد من هياج تلك العاصفة والتي وتبدوا وكأنها ستدمر عقلها ولكن ذلك لا يحدث... يمتد السور ليخترق صدرها فتشعر بالصدأ يخرج مع أنفسها التي تتقطع وتثقل حتى تكاد تشعر بأن أنفاسها توقفت فتتسارع أنفسها المتقطعة لعلها تحافظ عليها ألا تختفي وكلما تحاول أكثر أن تنظم أنفسها يشتد السور ثقلا على صدرها وكأن جبلا موضوعا عليه ويجب عليها تحركيه مع كل نفس أو أنها أنفاسها ستتوقف للأبد ولكن ذلك لا يحدث... يمتد السور ولكنه لا يخترق القلب فقلبها هو الوحيد الذي مازال يقاوم ولو أن السور تمكن منه فألتف بحديده الصدأ حوله عدة مرات ويضغط عليه وكأنه يفتته ولكن القلب يتحمل وكلما حاول القلب أن يفك الحصار بأن يرسل بريق أمل أو رسالة حب لباقي الجسد يفاجئه السور بقطعة منه تشبه السهم تخترقه بهدوء شديد وكأنه يتفنن في تعذيبه فيغطي الدم السور ويهدأ القلب حتى يكاد يتوقف عن النبض ويتماسك ويحاول من جديد ويحدث نفس الشيء حتى يكاد يتفتت تحت ضغط السور ولكن ذلك لا يحدث... يتوقف السور عند القلب بأن يتلف حوله مئات المرات يتوقف لأن كل شيء ينتهي عند القلب ولكن  تحت القلب تحملها ساقيها التلان لم تعدا تحتملان بإمكانها تشعر بضعفهم واهتزازهم مع كل رعشة ألم تخرج منها لم تعد تستطيع أن تحمل كل ذلك وتسير هي تريد الجلوس حتى يداها لم يعدا يقدران على الحركة فمن يتحرك مع ذلك الحمل...
تسمع صوت يأتي وكأنه من أعلى بئر وهي في قاعه غارقة في الماء..
"حبيبيتي يلا أصحي .. هتتأخري على الشغل كده زي كل يوم"
تحاول جاهدة أن ترفع رأسها من البئر، تستجمع أفكارها في اتجاه واحد، تنظم أنفسها رغم كل شيء ، تجمع كل قوة في قلبها وتحاول محاولة يائسة أن تتمسك به لعله يكسر ذلك السور معاها تحاول أن تخبره عن السور وتقول :
"بس ..."
يرد عليها بأبتسامة صافية:" لا بس أيه يلا يلا بلاش دلع"
كانت تدري من البداية أن محاولتها تبدوا فاشلة فالسور قد توغل وتمدد بما فيه الكفاية لكي يستمر، تستلم وترفع الرايات البيضاء ، تترك أفكارها تتخبط من جديد وكأنها ستنفجر، انفسها تتباطأ وكأنها ستتوقف ، وقلبها على وشك أن يتفتت
ترفع رأسها ببطيء ترسل دموع ولكنها لا تستطيع أن تمر من السور فيخرج بدلا منها ابتسامة لا تدري كيف خرجت وتقول:

"حاضر.."